بعد تردّد كبير، قرّرت أن أشتري كتاب «ما بعد الإمبراطورية: دراسة في تفكّك النظام الأمريكي»..! ولعلّ سبب هذا التردّد هو عملية تحصين ذاتي من أن تكون النفس سائرة (من دون أن تعرف الذّات) نحو تبنّي ايديولوجية جديدة تتمثل في ما يمكن أن يسمّى بالهاجس الأمريكي. ولعلّ لذلك سببا آخر يمكن ربطه بضرورات مواءمة قراءات الواحد منّا لأحوال الطقس والمناخ، ونحن كما هو معلوم بدأ الصيف يزحف نحونا بما يتطلبه من استرخاء وقلّة جهد!.. وإذا كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية فرضت علينا، على الأقلّ لأسباب مهنيّة الاهتمام بها، فإننا بقدر ما نرى سياساتها، نجهل حقائقها كدولة وواقعها كمجتمع. لكنّني أرجو أن يكون هذا هو سبب شراء «كتاب إيمانويل تود»، الذي يحمل إسمه كمّا كبيرا من العلم والاحترام. وأكرّر أمنيتي أن لا يكون السّبب هو ذلك الهاجس الذي ترفضه الذات، حتى لا تتأدلج في غفلة منها أوعنها، وحتى لا تصيبها من الهواجس غير تلك التي لا علاقة لها إلا بالميتافيزيقا. وإن كان الواقع يشوّش هذه الأخيرة أيضا، ويحرم النّفس والعقل حتى من الخيال! والمهمّ وبدءا يمكن التركيز على أهمية هذا الكتاب، كما جاء في مقدمة التمهيد، يسعى الى البحث عن مبرّر للسلوك العدواني الأمريكي، وهو يبدي سخرية قاسية من أولئك الذين يختصرون جوابه بأنّه نتيجة أي السّلوك للقوّة المفرطة. ا لأمر ليس كذ لك عند «ايمانويل تود» الذي يعيده الى جوانب الضّعف في الولاياتالمتحدة. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، صار العالم لا يشعر بحاجته لأمريكا فأصبحت بالنتيجة تنزع الى التفرّد بحكم العالم والاستبداد في ذلك. وهذا التحول اللاديمقراطي في السياسة الخارجية، واكبه تحوّل لا ديمقراطي في سياسة الولاياتالمتحدة الداخلية طال بقسوة حقوق الانسان فيها خصوصا العرب والمسلمين، كما طال المواطنين الأمريكيين كافة مع استمرار سياسة التفريق ضدّ السّود والهنود. ويقول الكاتب : «وقد تزامن هذا التطور الأمريكي اللاّديمقراطي مع الانتشار المتسارع للديمقراطيات في العالم». ومع انحسار الشيوعية والديكتاتورية بانهاير الاتحاد السوفياتي وقبلها النازية والفاشية، تآكلت بالتالي حاجة العالم الى المظلّة الأمنية والسياسة الأمريكية. وشهد القصور السياسي الأمريكي كما يذكر «إيمانويل تود»، قصورا مقابلا على مستوى الأداء الاقتصادي يحصره في مظاهر على غرار تراجع الانتاجية للاقتصاد الأمريكي توازيه زيادة مفرطة في الاستهلاك مع بروز عجز متصاعد في الميزان التجاري بعد أن كانت تشكل سنة 1945 نصف الانتاج العالمي، لذلك لم تكن في حاجة الى العالم على الصّعيد الاقتصادي. والغريب كما يذكر الكاتب أن عصر العولمة أثّر في البنية الداخلية لأمريكا فأضعف اقتصادها وشوّه مجتمعها. ومع مرور الوقت نشأت علاقة تبعيّة بين الولاياتالمتحدة والمناطق الواقعة تحت نفوذها وازداد العجز التجاري فيها بين 1990 و2000 من 100 مليار دولار الى 450 مليار دولار! وقد استعانت من أجل تحقيق توازنها بالتدفقات الرأسمالية من الخارج ومعظمها من أوروبا واليابان. لقد أصبحت أمريكا عشية القرن الحادي والعشرين ومع بدايته غير قادرة على أن تعيش على إنتاجها وحده إذ شاءت الاحتفاظ بمستوى معيشة مواطنيها. وتتمثل المفارقة هنا أنه في اللحظة نفسها التي اكتشف فيها العالم المتجه نحو الاستقرار الثقافي والديمغرافي قدرته على التخلّي على أمريكا، أدركت أمريكا أنها لم تعد تتسطيع العيش بالتخلي عن العالم. يقول: في اللحظة التي يكتشف فيها العالم الديمقراطية ويتعلم بالتالي الاستغناء سياسيا عن أمريكا، تبدأ هي بفقدان طابعها الديمقراطي وتكشف أنها لا تستطيع الاستغناء عن العالم. وينتج عن ذلك أن يواجه العالم انقلابا مزدوجا: * انقلابا في تبعيته الاقتصادية لأمريكا. * انقلابا في الدينامية الديمقراطية التي أصبحت ايجابية في أوراسيا وسلبية في أمريكا. وإذا أخذنا هاتين العمليتين، يمكننا فهم الغرابة في السياسة الامريكية والفوضى السائدة على الساحة الدولية. لم يعد هدفها الدفاع عن نظام دولي ديمقراطي ليبرالي لم يعد يشعر بالحاجة إليها، فضلا عن أن الديمقراطية تفرغ من محتواها في أمريكا ذاتها! وبما أن التموّن بمختلف السلع والراسميل من العالم الخارجي أصبح أساسيا في مفردات سياستها الخارجية، صار الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة السيطرة السياسية على الموارد العالمية، غير أن تراجع قدراتها لا يسمح لها أن تسيطر فعليا على عالم أصبح شديد الاتساع وافرا بعدد سكانه، متعلّما وديمقراطيا. يقول: كان عليها أن تجد حلاّ لتبعيتها الاقتصادية التي تقضّ مضجعها وتحاول أن تبقى ولو بصورة رمزية في مركز العالم عن طريق القيام بعمليات عسكرية استعراضية، وهي ترتكز في ذلك على 3 عناصر: * ألاّ يتمّ التوصل نهائيا الى حلّ نهائي لأية مشكلة على الساحة الدولية من أجل تبرير عملها العسكري. * التركيز على الدول الصغيرة، العراق، ايران، كوريا الشمالية.. * تطوير الأسلحة الجديدة. وكلّ هذا يجعلها عثرة في طريق السلام العالمي ولكنها مع ذلك لا تشكل تهديدا خطيرا. ويؤكّد : ان الدول المستهدفة تحدّد بصورة موضوعية قوة أمريكا القادرة بالكاد على مواجهة العراق أو كوبا أو إيران. وليس هناك أيّ سبب يدعو الى الهلع من بروز امبراطورية أمريكية هي في واقع الأمر بسبيل التحلّل بعد 10 سنوات على انهيار الامبراطورية السوفياتية!.