في مثل هذا اليوم وتحديدا في الثالث من جوان سنة 1924 غادر كافكا الحياة، لكنّ كوابيسه ظلّت تفعل فعلها في الأرض، حتى بات من الممكن الزعم أن العالم أصبح «كافكاويا» أكثر بعد رحيل صاحب «المحاكمة». المفارقات نفسها التي تعجّ بها كتبه نجدها تأخذ أشكالا جديدة في حياتنا اليوم. الحروب القذرة وهي تتبجّح أكثر فأكثر بأنها حروب نظيفة. ابتذال الجسد بدعوى تحريره. تدمير القيم بحجة الدفاع عنها. تدمير الفرد وخنق الحرية بحجة الانحياز الى الفرد وإلى حريته. التمزق نفسه بين عشق الحياة واستحالتها. الانسان نفسه يبدو اليوم وكأنه «إنسان» كافكا الغريب، الموجود دائما في المكان غير المناسب في اللحظة غير المناسبة، غير القادر على عشق شيء دون تدميره، غير القادر علي تحمّل اسمه، أو على حمل سمات شخصية قارّة، فإذا هو مسخ مستمر مستعص على التحديد، وإذا هو «لاكائن» دائم التحول من «لاكيان» الى آخر. لا سلاح له في النهاية سوى جسده. يلجأ إليه حين يعجز عن التواصل، فيمسخه بسخرية ويطلقه في وجه الآخرين مثل عبوة ناسفة، أو يتولى كتابة سيرته، وكأنّ السيرة آخر خطوط الدفاع عن يوطوبيا لا طائل من ورائها ولا محيد عنها في الوقت نفسه.. لم «يتدّين» أحد بالأدب كما فعل كافكا ولم يستخف أحد بالأدب كما استخفّ به هو. كان يقول «كل ما ليس أدبا يزعجني ويثير حقدي حتى الحديث عن الأدب..» لكن الكتابة في عالمه بدت ملوّثة بكلّ ما يلوّث الكتابة في عالم تدنّى بها الى أدنى درجاتها، بحكم الزمن المعادي والمكان المعاند والعبث العميق الأصلي لكل هذا الذي يحرّك الانسان المراد له أن يصبّ في قالب جماعي وحيد.. كثيرة هي الصور التي تعود بنا في نصوص كافكا الى الكتابة في مستواها البدائيّ الآلي، بعد أن أفرغت من محتوياتها كافة، وكأنها ممارسة كائن فقد «محتواه» وظلّ متشبّثا بعاداته.. كتابة الرسائل البريدية العادية، كتابة التقارير والمذكرات. آلات كاتبة، مجرد آلات، يراد لها أن تمارس الكتابة كما تمارس الحشرات الصرير، وأن تستمع بسماع «صريرها»، مجرّد «الصرير» على الورق.. ألا تسمع صدى لهذا في جلّ ما نسمع اليوم من غناء وشعر و»ثقافة» تسلويّة؟ لقد عشق كافكا الحياة لأنّ الحياة بدت له مستحيلة. ولعلّ هذا هو «الدرس» الوحيد الذي قد يقدمه لنا الكتاب والشعراء الكبار العازفون عن تقديم الدروس. تلمّس الأمل في ذروة كلّ ما يبعث على اليأس. الإشارة الى الى العلاقات الخفية الواضحة بين الجزئي والكلي، بين ما كان وما هو الآن وما هو قادم. بهذه الطريقة يغيّر المبدعون حياتنا. التغيير الذي قصده والت ويتمان في مقدمة ديوانه «أوراق العشب» حين تحدث عن تراث «الزن»، وكيف غيّر باشو ذات يوم أبياتا قاسية ألّفها تلميذه الساخر كيكاكو قال فيها: «يعسوب أحمر، اقطعوا جناحيه، ها هي فلفلة..»، فقال باشو: فلفلة اجعلوا لها جناحين