السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فجائعية النص وشهوة الشعر في نزوة التداعي واحتفاء اللغة بالمحلي في: المجموعة القصصية «مدينة اغتيال الأحلام» لفتحية النصري (2)
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

بقدر ما تدرك فتحية النصر فكرة نصّها بقدر ما تحفل بها في بكائية مجهدة مبطّنة ببديل عائم في لغة غارقة في ما يشبه الفعل بعد كل اليقظة والمعيش الحادّ متمّة كلّ نصّ/ فاجعة بأمل لغوي منفرط لا يفي ولا يقنع كما لو أنها تركم كل ما حصل جانبا لتكون هي الحاسمة كسلطة على نصوصها فارضة ما تراه. هذه النقيصة من شأنها أن تسيء للقصّة فتقلّمها من إمكانيات تألقها مادام مجرى الأحداث لا يسعى الى ما تدركه القاصّة بقدر عملية إيحائه وأسئلته وغرابته. إن النهايات المختلفة الهادفة هي لبّ الفكرة المطروحة في نهاية الأمر. ذلك أن القارئ في حاجة الى المباغتة التي تتطلب قدرا متمكّنا من اللّغة المستدرجة له تباعا فتنال منه وتربكه كما أن التناول مطلب يتشكل من خلال شحنات النص. هذا يعني أن القصة القصيرة شأن عسير يتطلب أدوات وتقنيات مخصوصة تختلف من نص لآخر وعلينا أن نتخيّر منها ما يضيف لعمقه الذي نترصّده لحظة الكتابة حتى لا يتراءى ما هو فجّ وحشو فتفرط الشخوص والاحداث وتختلط بما هو مجاني لا نفع منه وتتسلل النوايا الأولى خارج النص لتحلّ مكانها لذّة متاهة اللغة كفعل مزاجيّ يطيح بالبناء الذي سلكنا. هذه القاصّة تهيم باللغة في تطرّف عجيب وحميمية عالية مشبعة بالحلم الى أقاصيها وهذا إن حسب لها فإنه يمحو في حالات انتشائها ما أزمعته ولعلّه يصيب نصها في مقتل أحيانا لأن تقفّيها يتحوّل الى اشتغال على اللغة دون سواها. هي تجربة أولى تنبئ بأنها قادرة على ولوج هذا الفنّ ا لصعب الذي يحتاج للصنعة والحرفية العالية وتشكيل الدهشة لكنّ المكابدة والقسوة كفيلان بإنجاز نصوص أبلغ وأعمق.إن الغرق في ما هو يومي معيش شأن متداول عند أغلبية القصّاصين حتى صار مألوفا مزمنا لا فكاك منه وإن سعى بعضهم الى الارتقاء به صوب رؤى فارقة وهنا تتبدّى حالات خلق هادفة لم نتعوّدها ولعل هذا التمشي ضرب من التجاوز الذي تمليه القصة القصيرة المليئة بالحياة والدّفق. لذلك فإن تناول الطبقات الفقيرة ما عاد يعد بالاختلاف إن استمرّت الشكوى كما هي عليه وقام الرفض وما إلى ذلك من المواقف الحادّة على شفاه الأبطال الحاسمين. هذا المنحى انتهى وما عاد يفي بحاجتنا ونحن نكتب القصة. هناك ما هو أهم حتى نبلغ ما هو فارق لحظة الكتابة عن الطبقة المهمشة. ذلك يعني أن هناك رؤى أخرى بكرا علينا بغزوها. القهر والضّيم والظّلم والدّون وما إلى ذلك من القضايا التي ترزح تحتها هذه الطبقة حالات تتطلب سبلا أخرى غير مألوفة حتى نتناولها بشكل ومضمون مغاير ولنا في ما أنجزه يوسف إدريس مثلا نموذجا مميزا للمهتمين بقضايا الطبقة الممحوّة كما ذكرنا. إنّ فعل الرّجّة والهزّة التي تنتابنا ونحن نلج ما كتبه هذا المبدع العظيم بالغة جدا. شخوص فتحية النصري متعدّدة تسعى للخروج من القاع لكنّها سرعان ما تصطدم بالقهر القائم من الآخر المتربّص بها بأشكاله المتباينة فتتبدّى حالات كالقتل والاغتصاب والاقصاء وهذا شأن يقوم على الاستيلاب الجسدي والنفسي للضحايا المستهدفين من الواقعة التي انبنى عليها النصّ. أمام هذه الوقائع الفاجعة تهرب فتحية النصري الى الركن المفتوح على زخم من بهرج اللغة والحلم كما لو أنها تستنكر ذلك وتحاول مجهدة جدا انشاء ملامح أخرى لكل ما حصل من مزالق الطبقة المهمشة لبناء رؤى رفض للماثل والمعيش. ذلك أن طرحها يبلغ ذروته عندها فلا تقوى على التسلّل إلى ما هو جدير بالسؤال ولا تجد إلا سندها الخاص الذي تلجأ إليه من خلال انعكاس الحالة التي صارت في حجم صدمة لا تتحمّل حدّتها. تهرب منها الى تواصل عاطفي عمودي دون أن تبحث لها عن امكانية للصّدام كافية لتأجيج نصّها وخروجه عن السرد العادي.
* واقعية النصّ/ محاولة هاجس التمرّد:
رغم أن فتحية النصري سائبة في حاصل مدينتها غائبة في تفاصيلها إلا أنها تخرج عن هذا الواقع بشكل قريب من الفانتازيا وهي تحاكي أبطالها في لحظات خارجة عن ذلك الهوس الدّائم بما هو يومي عابر. في قصّة «غريبة المرتحلين ص. 95» تنطلق القصة بما هو خارج عن عادات فتحية النصري مع بقية النصوص في المجموعة «تغريبتي أعزائي كتغريبة بني هلال والارتحال يشدّني في ذلك الزمن االموبوء.. بقافلة من ذريح مررت من هناك.. الارتحال يتبعني اعتليت صهوة جواد المتنبي.. أود الهروب طفلة تعود القهقرى الى الفساتين الربيعية غبّ زمن تمنّت على ليلة القدر أن تمنحها جناحين.. حتى تلامس قوس قزح وتنشطر بألوانه فتهبها الشمس ألوان البنفسج والصّحارى.. وبعض كلمات المتنبي تتردد على صحراء هذا القلب كصهوة سمائنا ذات ربيع..». ها هي تتسلل من ضجر السائد الى فعل آخر يسحق الفاصل وينسج ما هو غرائبي في حالاته الممكنة. إنّ خيانتها للعادي في هذا النص وعود لقفص أخرى عامرة وإن آبت بعد رحيل الى همّها الأساس كما لو أنها تتطهّر من إثم هذا الخروج السافر وذلك يتبدّى في قصّة «عطر الليلة الخيرية ص 87»، «دقّت نواقيس الخطو.. وداهمه شكل من العرق المحترق. نفث دخان سيجارته بشفاه محمومة ترتعش. تساءل في حق : لماذا يكون الشتاء باردا وجافا في مثل هذه الربوع وكيف تتحمل الأجساد كل هذا القحط؟». إنّ المراوحة بين النفس الواقعي العادي والخروج المباغت عنه من شأنه أن يهتك النص كل مرة ويوقع به. إن كل قصة قادرة على تشكيل ملامحها إن نحن سلكنا بها ما قامت عليه دون أن نشعر برتابة ما لأن لحظة إحساسنا بتهالكها لا يفرض علينا البحث السريع عن مقومات أخرى كفيلة بتطعيمها حتى ننتشلها من مآلها. تطارحنا معها من جديد يمثل أوبة صحية لكونها فاضت بنا عما أضمرنا. عراك النص كما ذكرت ضرورة لا بدّ منها. حاجة ملحة دائما وقاصتنا قادرة على مواجهة ذلك إن هي كابدت. لعلّ المخاض الطويل أحيانا يوحي بكوننا نلج حالة بكر فعلا. حتما لن يكون هناك ما هو مشوّه إن لم نسرع هدرا من الوجع. أليست الكتابة في نهاية الأمر حالة وجع لا نضنّ أو نبخل على تجلياتها الأخرى فينا؟ تلك هي القصة القصيرة الأخرى في جانب بليغ منها. كما لو أننا نعيش حالة مخاض مرتكبها لحظات بعثها.
* شخوص مشوّهة :
معظم شخصيات قصص فتحية النصري تعاني من عاهات متعددة أهمها التشوهات النفسية الى جانب ما هو موروث. يأتي أغلبهم من قاع حاد في اجهاد باد للخروج منه حتى يدركوا أفعالا أجدى لكنهم وهم بصدد المحاولة يتشكّل تشوّه آخر وحالات قمع مختلفة هذا يبرز في قصّة «المطارد والشوارع الخلفية ص. 36» وبطلها يشرّح ما هو عليه: «أنا المطارد في كلّ الأحياء. عليّ أن أغسل جبل آثامي وأوفّر لأمّي ثمن الدواء علّها تغفر لي كلماتي الحاقدة ونظرات الشماتة في أعين الجيران.. وأيّ جرذان هم؟ أشباه أموات تقيّأتهم المدينة لتلفظهم في مستنقعاتهم الضّحلة..». كما يظهر ذلك في قصّة «صباحات المقرورة ص 66»: «ليت الزمن يلقي بظلاله الوارفة على هذه النفوس المخذولة. يحملك رجع الصّدى ليقودك الى شجرة الصفصاف التي أمنت لك راحة لا تنسى أيام دفء الطفولة.. لقد تغيرت كل المواصفات فيك وعصفت الريح بأخاديد ما تبقّى لك». عاهات القاع تظل مستحفلة والشخصيات تواجه مصائرها في ثقل ضيقها تخدش سمكا صلدا من أجل مخاطرة تسعى حتى تكون فاعلة رغم تدخل القاصة كسند فاضح لأبطالها لكن تركيبتهم الهشّة تعرى بغتة فتوقع بهم متوهمة انتصارها لهم وذلك بين من خلال الأحداث التي تطفو وسرعان ما تتهالك وتغيب لتحلّ مكانها سياقات شعرية تشحنهم بها كي توفر لهم امكانيات أخرى للفعل. أغلب الأبطال غارقون في الشكوى منذ البدء يعدون بفعل فارق لاحقا لكنهم يخيبون في نهاية المطاف. هذا ليس على مستوى المضامين فقط. إنه يتعدّاه الى الشكل بوجوهه العديدة. إنّ القصة التي لا تربك وهي ذات وشيجة بالقاع لا يمكن أن تستولي على اهتمام القارئ كما أن القصة التي لا تمتلك حالات توهجها وتميزها لا تستطيع أن تبني عالم فكرتها التي قامت من أجله. ولعلّ الأمثلة في هذا الغرض لا تحصى. فقصة «ينقصنا التبغ» لحسن بن عثمان تكاد تكون عادية عابرة لكن فكرتها التي تأسست عليها طريفة إلى أبعد حد وهنا يكمن توهجها وما هو فارق فيها. إنّ الزوجة الصالحة التي أنهكت زوجها السكّير وأثقلت عليه بردود فعلها ونصائحها الممضوغة يوما بعد آخر حتى يقلع عن الخمرة ويتوب الى ربّه توبة نصوحا هي التي تحرّضه بعد ذلك على العودة الى معاقرة الخمرة من جديد لأن حياتها صارت رتيبة مملّة لا تحتمل. حين يعود الزوج الى عاداته القديمة كما كان تشعر أن حياتها امتلأت وصارت لها معنى لكنها لا تتخلّى عن صلاتها، ذلك أن حاجتها من الدنيا لا تتعارض مع حاجتها الى الآخرة. فهي في صلاتها خاشعة جدا وفي فراشها ممتنّة شاكرة. إنّ رصدي لهذا النموذج الهادف هو نفسه الذي عشته مع قصص فوزية العلوي وهو ذاته وأنا أنشأ على قصص يوسف إدريس الفخمة. وهذا لا يعني موقفا سلبيا من نصوص فتحية النصري وأنا أحشرها وسط هؤلاء لكنّ الأمر لا يخرج عن غيرتي عليها كقاصة واعدة قادرة على فرض نصها إن هي تخلصت من شوائب عديدة تربكها تجاه تجارب بلغت ينابيع أخرى.
* احتفالية اللغة وشعرية التداعيات :
إن فتحية النصري في حالات التداعي المنفرطة تغرق في غنائية سائبة، ذلك أن شخوصها يغرقون في محنهم فلا يجدون إلا الشكوى سبيلا تجاه سوداوية المعيش وذلك يتبدّى في قصة «غربة الروح ص 42»: «قتل.. ومات مقتولة.. نعم.. قتلتك الغربة واجتاحت معالم الحلم القديم.. قتلتك الألسنة.. فلا عاد من الخارج محمّلا في.. يا سياط الوجع في قلبي ويا طعم الغدر في العيون..» أو حالة لوعة ورفض مؤثث بالحلم في قصة «ما لم أبح به ص. 74»: جمعت أوراقي وترشفت رحيق حبري وإن سافرت فارحل وامض بالخطابات والأرق الدّفين فلا أظنّ القلب يشيخ بعدك. لأنك وإن ضللت الطريق فإنّك ملاذي الأخير..». بين هذا وذاك تتبدّى القاصّة محتفلة بمكتسباتها اللغوية وقدراتها على محاولة تطويعها في سياقات شعرية قائمة على صور جوّانية هي هامش حالاتها النفسية التي تستند عليها لبناء عالمها القصصي. لذلك تغيب أبطالها لتحلّ مكانهم وتصرفهم حسب مزاج اللحظة المعيشة ويحصل عندما تدرك حالة فشل الفعل عندهم فتنال حينها من سقوطهم في احتفاء فجائعي بالغ قائم على لغة منتقاة بعناية فائقة خارجة عن نصها كما لو أنها تضفي بهارات حتى لقصتها طعم مختلف ملمّعة ما أمكن حتى تحقق دهشة ممكنة أو تظفر بلذة مستهدفة متوقعة وذلك يتبدّى في نص: «الصباحات المقرورة ص. 69»: «دون خجل تتخطى الأبواب وتداهم الغرف وتتصور أسوار الليل وتعاشر كل النساء.. من وحي خيالك..». لا أشكّ في شعرية فتحية النصري لكنه حالة تهويم مقحم في نصوص قصيرة تتطلّب مبرّرات عدة وهذا ما كنت أقع فيه في نصوصي الأولى الى أن اكتشفت بعد أطوار أن ما كتبته في بداياتي محاولات تسعى لإثبات قدرتي على مماطلة اللغة والسّمسرة معها في مكر وخبث وتواطؤ واستغلالها لإرباك الآخر من أجل افتكاك شرعيتي كمبدع لكن بعد مكابدة مطوّلة أدركت أن اللغة مجرّد وسيلة وليست غاية في حدّ ذاتها لبناء ما أسعى إليه. ذلك أن تخريب اللغة إيجابا وغزوها دون مجانية أو تلفيق أو بهرج في بناء آخر تسمو فيه حالات التعبير الى خطاب متأجج ضارب. فاللغة الجميلة ليست مطية سهلة بقدر ما هي متحرك لوجهات شتى لها خصوصيات لحظتها في عمق مريب ويمكننا حصرها وفق حاجاتنا المختلفة كي لا تنفلت بنا الى فضاءات أخرى خارجة عن الفضاء الذي رمنا، لذلك فإن الشعرية في جانب التداعيات منها مطلب مربك وراق إن برّر جدواه في النص المستهدف وأقحم فعلا. إن بداياتنا المتعثرة هي أساس بناء وهدم متواصلين حتى نرقى في عراكنا معها الى منشود ما وهذا لا يتوفّر إلا لمن آمن بلهفة عجيبة في بلوغ نواياه واستطاع أن يرمّم مع كلّ خطوة محدوفة الى الينابيع رحلته الى مكامن المغاير وفي مداخلتي هذه لا أهتم لردة الفعل بقدر ما أهتمّ لغربلة النص واكتشافه حتى لا أكون مجرد زارع للوهم والأراجيف والتجمّل فترضى قاصّتنا أو غيرها على ما أنجزت وهي بعد في خطواتها الأولى وسط تجارب بلغت بعد أطوار ملفتة جدا. هي ولوج أول عليها أن تستغله من خلال ردّة فعل الآخر وتقبّله ولا يجب أن تنتظر احتفالية ما بقدر احساسها بالمجازفة وما يمكن أن تفرزه بعد ذلك. إنّ النقد صار في ظاهره وليمة دسمة وما على ممتهنيه أو متذوّقيه إلاّ ممارسة أشكال من الأعراس العابرة في احتفائها بالنص دون المغامرة بتقديم ما هو ممكن في تجربة المبدع. ذلك أننا لا نجني من وراء الصفحات المطولة إلاّ ما هو ممضوغ بائس لا يحيلنا على رؤى أو سبل أخرى نتسطيع أن نمضي فيها فنغرف ونشبع ونمتلئ مادام فاقد الشيء لا يعطيه ولعلّ المبدع وهو يتحول بقدرة قادر الى ناقد بإمكانه أن يضفي على النص بعض رؤاه فيخرج به من تنظير باطل مسقط الى حالات بكر أخرى قادرة على مواجهة نهمه للمختلف المثمر. ذلك هو التواصل الممكن من أجل التهديم الفاعل الذي يبني ولعلّ قراءة أثر وتناوله الأفقيّ مع مبدعه أبلغ جدا من أدوات ووسائل نقدية مقحمة لتنافذ أخرس لا يستجلي الأثر ولا يثريه. لذلك تبدّت لي قصص فتحية النصري أقرب ما تكون لفصول روائية منفصلة تهذي بمغامرة لكتابة رواية ما ولعلني كنت كذلك في تجاري الأولى من القصة القصيرة التي أهملتها وجازفت بشقّ سبيل أعسر منها.
* متاهة السؤال والقاع :
إن عنوان المجموعة «مدينة اغتيال الأحلام» همّه امتلاك جانب من الفعل القبلي للإرباك وإن سعى للإخبار. القصص في جملتها هي حالات إدانة للواقع في مدينة خائبة قامت على ا لفقر والبؤس. هذا أدى الى ركام من الاغتيالات العديدة للحلم فالهجرة والهرب منها خيار كان نتيجته القتل لبطل من أبطالها كما لو أنّ المدينة هي ملامح أهلها وطباعهم وذبحهم ولو اختلف المكان. ذلك أنهم تطبّعوا بها لأنهم منها ولا فكاك لهم من فواجعها التي تستهدفهم رغم هربهم ورفضهم لها. ذلك باد في قصّة «غربة الروح ص 44» ته مع الراحلين كما تاه الحلم.. يا أمّي في مدينة تغتال الحلم والأبناء». هذا الصدق الفاجع منثور في أغلب النصوص تقريبا. إنها بقدر ما تدين المدينة فهي تدين الفوارق القائمة فيها وتنتصر للمهمّشين فيها وتطال أبسط حق ّ ممكن وهو الحلم الذي صار متاهة مترفة محرّمة عليها في صراخ وبكاء ونواح ونشيج في تداعياتها المؤرّقة. بقدر ما سعت فتحية النصري الى محاولات الإرباك في مجموعتها الأولى «مدينة اغتيال الأحلام» فإنها استطاعت المغامرة حتى تكون لها خطوة أولى بشقّ الأنفس وسط اشباع رافض قام على الحلم وبلغ الشعر وساب كما اتفق. تلك هي تجربة أولى تسعى للحضور ولفت الانتباه حتى تنحت ما هو قادم ولعلّ ما كتب عنها في بداياتها سيكون دافعا مهما للمغامرة مرّة أخرى.
* (القصرين في : 01 04 2004)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.