حين قرأت قصة (طريق دار العجايب) تملكني شعور حاد بالامتلاء وهو أمر طبيعي نعيشه لحظات تنافذنا مع نصوص وأعمال تحدث فينا نوعا من الهزّات ونرتجّ من فرط المتعة والغبطة على نحو يصالحنا مع ذواتنا ونحن نتعب ويزداد ارهاقنا في عالم هشّ ومحيّر يذهب نحو ما هو سطحي وعابر ويزداد عندها اصرارنا على الكتابة من حيث أنها العزاء والسلوى. وسرّ هذا الامتلاء قد يكمن في قدرة الكاتبة على الابتكار والابداع وتمثّل الأنا بشكل شفّاف فيه الشيء الكثير من الصدق حيث ينجح الكاتب المثابر طبعا في الكشف والتفكيك والبحث بمتانة العبارة وتفجير التفاصيل وتفعيلها بشيء من جلد الذات. هذه الذات المتألمة حبيسة همومها رغم ان البعض يحاول ان ينفذ إليها عبر التزويق والتفنن الساذج في تجميل لن يفضي إلا الى سذاجة محكمة تجعل من الابداع والفن عموما تعلات لقتل النابض والحي. في هذه القصة استعراض أدبي أخّاذ لاعتمادات شتى تحوم جميعها حول ذاك الصراع النبيل والشريف من أجل البقاء والتشبث بمنبع القيم ومهدها، الارض هذه الارض التي تبدو بطلة القصة بامتياز فتصرّ الكاتبة على محاورتها واستنطاقها لتجعل منها كائنا معطوبا وموجوعا بفعل الذكرى. (كيف تصمت الارض وهي تشهد هزيمة أصحابها؟ هل تنفذ الخيانة الى عمق الارض؟ أيتها الارض الطيبة كحضن دافئ لماذا صمت وانت ترين أصحابك البدو يرحلون؟ هل تراك تنتقمين... أم تراك قد استلبت؟). بهذه المرارة وأمام صمت الناس والارض تتفجّر الأسئلة في حلق الكاتبة بشيء من الدم الذي طالما ارتوت به هذه الارض فتبدو العبارات جارحة وقاتلة ومبتلة بالدم وهنا نذكر قولة جلال الدين الرومي.. (ان الدم ليتفجر من فمي مع الكلمات..) أستذكر ذلك لأن الكاتبة تخيّرت عباراتها انطلاقا من ذاك الإحساس الدفين تجاه الآخرين البائسين المتخاذلين الذين تغرقهم السلبية في بحر من الزيف والوهم والخيانة (ايتها الحمقاء... انت الأضعف يا لها من امرأة عنيدة..). حدود التداخل القصة واضحة وبليغة عباراتها والمعاني ولكن القاصة رشيدة الشارني قد سعت أكثر لتوظيف تقنية دقيقة بقصد تفجير الحالة النفسية التي يعيشها اصحاب الحق في الارض وفي التاريخ وفي الحياة. ويبرز ذلك أكثر من خلال شريط التذكر السردي لإحداث التلازم بين أمرين الى حدود التداخل ومن الواقع المؤلم والزمن الاستبعادي زمن الأمجاد والحلم في لغة سردية جذّابة تحضر أثناء مصاحبتها الصور والمشاهد المكتملة بحيث نشعر ونحن نقرأ القصة اننا امام شريط من الصور او السينما ان شئنا ننظر لتدفق الصور القصصية من خلال التنويعات المتعددة والمتداخلة على الواقع والرموز، وكذلك مختلف الحالات التي انتقتها بعناية قص فائقة ومنها القوة والصبر والاصرار والشعور بالخزي والذهول والسلبية والغربية والقهر والتشريح الطبقي والموقف الاجتماعي والثقافي وضياع الحقوق والسخرية والفراغ والانكسار... وهكذا خصوصا اذا فككنا هذه القصة الى مقاطع وحاولنا استقراءها ضمن سياقات متناقضة تقول الواقع وتنقذه عبر الصراخ بوجهه حينا وعبر السخرية احيانا كثيرة وهذا ضرب من الوعي بفنون القص هذا الوعي الذي اقترن عند رشيدة الشارني في هذه القصة بالثورة على كل ما هو سلبي ومظاهر تخاذل وخيانة وموت. القاصة والأنا القصة متماسكة انطلاقا من بنيتها وحنكة التصرف في الأحداث وتدفّقها وسحر عناصرها وشخصياتها وتنويعات القصّ بين القاصة والأنا، هي أنا الكاتبة رشيدة الشارني انطلاقا من أزمنة الطفولة كل ذلك بسلاسة وخفة ادركت القاصة من خلالهما جدوى الانسياب والتماسك،انسياب الذات الكاتبة المبدعة وتماسك الأسلوب والشكل في المستويات الفنية والجمالية والنفسية على هيئة تجعل من القصة عملا متينا مكتمل المظاهر بما يمكنه من احداث المتعة، متعة النص واللذة العارمة وهو ما تم التنبيه اليه في مستهل هذا النص. لقد نهضت القصة على الماعات سردية تقول بالشعر في منحاها الأدبي والرمزي وهذا ذكاء آخر من الكاتبة من أجل الوصول بالمعاني والأفكار الكبرى للنص على نحو بدت المفردة السردية في غاية الاناقة بعيدا عن التكلف وافتعال الاحداث، انها أحداث من صميم الواقع وكانت الاستعدادات مجرد تعلات جمالية وفنية لكتابة الألم والجراحات. مع اقحام الآخرين في النص هذا النص الدقيق في اختياراته لذلك كانت رشيدة الشارني تنصت بانتباه للشخصيات باختلاف آرائها ومواقفها سواء اولئك الذين أرادوا احباطها او غيرهم من الذين عبروا من تلك الارض اولئك الذين تمثلتهم بشيء من الحلم لصدقهم وعطائهم وكذلك انصاتها البليغ للارض الرمز والأمجاد ومكان الأحداث في القصة (كنت ارهف سمعي للكون وأصغي لأصوات الحياة). (ذلك الشارع شارعي وتلك الارض ارضي منذ ثلاثين عاما وأنا اتنفس هواءها واتبلل جذلى بأمطارها وأغطس دون ازدراء في وحلها..). برج ميلاد زواجها هذه القصة أرادت لها صاحبتها عديد التفصيلات التي تزيد من بذاخة معانيها وتعلي من شأن رموزها في إيقاع سردي مربك بلغته الحالمة واشجانه وثورة نبراته فمنذ البداية كان هناك اصرار من أجل قيمة الاشياء وقد أحسنت اختيارها للرموز من ذلك (وقد تدلى منها ذلك اللوح الذهبي الصغير الذي رسم على أحد وجهيه رأس أسد ويرمز الى برج ميلاد زوجها بينما رسم على الوجه الثاني قبة القدس وترمز الى موطنه).. وتعني بذلك القلادة التي سرقت منها هكذا في وضح النهار وأمام الجميع هؤلاء الجميع بحالات الخوف والجبن والانكسار والخيانة. ان حضور الارض في هذه القصة منذ بدايتها يضعنا امام هذا الابتداع القصصي الذي جعل من الشارع والطريق إطارا للحديث عن الارض التي جاءت منها الكاتبة والتي شهدت حادثة سرقة القلادة والتي كذلك انطلقت منها لإدانة الآخرين الصامتين المتفرجين المهزومين وقد أقامت تلك المقابلة الرائقة بينهم وبين أصحاب الارض الطيبين الذين استماتوا في الدفاع عنها وقد رحلوا تاركين أمجادهم لتظل رشيدة الشارني في مواجهة شاملة مع الارض بها الكثير من الشجن والحنين وجلد الذات ايضا وهذا شأن الكتابة العميقة التي تنطلق من رموز وتفاصيل بسيطة لتقول الحقائق الكبرى والوقائع المريرة دون مباشراتية فجة او قلق أدبي يسرع في قول الاشياء وكل الاشياء دون مهل تتطلبه الذاكرة المؤلمة والواقع العربي المخزي... كيف تخونني تلك الرائحة؟ كيف تصمت الارض وهي تشهد هزيمة اصحابها؟ هل تنفذ الخيانة الى عمق الارض؟ الضحية الحكاية واضحة لكنها استمدت سحرها من دقة القاصة وبلاغة العبارة لديها فبعد هذا الاصرار في بدايات قصة: (دار العجايب) تضعنا رشيدة الشارني امام حلقات أخرى هي بورتريهات لمواقف ولشخصيات من هذه المواقف نجد التخاذل الذي تقابله قوة الضحية (القاصة هنا) ثم الاعتداء الرهيب وما يعنيه ذلك من رموز ودلالات (يرفسها ذلك الخنزير بقسوة امام مرأى من جميع اولئك الناس الذين قرض الخوف وجوههم وشل حركتهم. تدعكها اقدامه بعنف ثم يلوذ بالفرار..). تستعيد بعد ذلك الضحية قوتها واصرارها وتفضح الآخرين في مسحة من الخزي وللضعف والخيانات، وتواصل بثراء لغوي توصيفها لحالات القهر والغربة والتعلق بالارض والحديث عن البسطاء وابراز الفوارق الطبقية وصولا الى الاستعادة والاستذكار لقصص الطفولة والارض مهد الناس الاول بشيء من فداحة الذاكرة والذكرى ويبلغ الأمر بالقاصة للانتهاء وبلوعة فارقة الى ضياع الحق رغم الاصرار وهكذا يسقط كل شيء رغم وهم الجدية والمتابعة والمطالبة.. لقد فهمت صاحبتنا جيدا منطق الاشياء لذلك هي (فهمت المسألة على نحو مختلف خزنت فيضها اختفت في الطرقات... تهرأت القصاصة بين اصابعها المتحرقة وقلبتها باستهزاء.. ثم لم تلبث ان فتتتها الى اجزاء صغيرة ورمت بها على رصيف دار العجائب..). هذه التقلبات في نفسية القاصة وهذه المعالجات المختلفة جعلت من النص ورشة قصصية لاستدعاء الراهن بعناصره ومشتقاته وتفاصيله بحميمية فائقة انطلقت من الارض (رمز البطولة في هذه القصة) لتعود اليها رغم التباعد الزمني والذهني والوجودي ولكن الحبكة كانت كامنة في ذاك التداخل العجيب والمذهل بين مختلف المواقف وتقلبات الحالات المتوزعة بين الحلم والحنين والاصرار والخيبة والسخرية والخزي والذهول.. وهكذا فقد كانت الحالات تعلات اقتضاها المتن القصصي ل (دار العجائب) للقول بهشاشة الاشياء في هذا العالم المجنون وكذلك لإدانة الموت الرمزي الكامن في الناس حين تنتهي أشياؤهم. الجملة الخفيفة الجملة القصصية كانت لدى رشيدة الشارني في (طريق دار العجايب) خفيفة وغير مركّبة او معقدة وانسابت عبرها براءات مختلفة هي من شيم الذات الكاتبة التي لن تنبع من غير معين الطفولة وإن كانت بعض الفقرات متشنجة وبها الكثير من الاسئلة والحيرة وهي مطلوبة في نص يطغى عليه الحنين والحلم والاصرار.ولعل هذا الاسلوب القصصي الذي عرفت به الكاتبة خصوصا في (الحياة على حافة الدنيا) يعد من السهل الممتنع خصوصا في حيّز سردي عرف بافتعال العقد والشخصيات وتداخل الازمنة حتى غدت القصص ضربا من التركيب البسيط الذي كثيرا ما ذهب بالق العبارات ومتانة الدراما وحبكة البناء والمعالجات الفنية. (كيف تصمت الارض وهي تشهد هزيمة أصحابها؟ وهل تنفذ الخيانة الى عمق الارض؟ ايتها الارض الطيبة كحضن دافئ لماذا صمت وأنت ترين اصحابك البدو يرحلون الواحد تلو الآخر؟). أسئلة حقيقية كبرى ستظل تجلدنا ونحن نهم بالكتابة في طرقنا عبر هذه الارض العجيبة... أليست الكتابة على هذا النحو جرحا مفتوحا... هكذا وهنا يكمن سرّ نجاح هذه القصة من خلال قراءاتنا المختلفة والحميمية تجاه الآخرين.. (النحن).. تجاه ذواتنا.