الكلام على الكلام صعب. ولعلّ أصعبهُ ما يتعلّق بتجربة نحبّها ونحبّ صاحبها. وهو شأني مع فتحي النصري إنسانًا وشاعرًا وجامعيًّا على امتداد قرابة العشرين سنة. وأزعم أنيّ من أشدّ المعجبين بتجربته والمنوّهين بها حيثما سنحت الفرصة. ولم أقرأ له إلاّ استعدتُ لحظاتٍ عشناها وأحلامًا لملمنا شظاياها وهوسًا بحُريّةٍ مازلنا لا نحفلُ بسواها. وكم بدت لي نصوصه قريبة منّي حتى خشيتُ أن أكتب فيها فأكون كمادح نفسه. أصدر الشاعر فتحي النصري أربع مجموعات شعريّة حتى كتابة هذه السطور: قالت اليابسة (1994) وأصوات المنزل (1995) وسيرة الهباء (1999) وأخيرًا جرار الليل (دار مسكلياني للنشر. 2006. 120ص). وهي مُدوّنة لم تحْظَ بالمتابعة النقديّة المطلوبة. ولعلّ صاحبها محظوظ بذلك فإنّ بعض النقد ظلم، خاصّة حين ينقدُ الشعراء على الشعراء. وقد تناوله بعضهم فاختزل تجربته في بُعدٍ واحد: قصيدة التفاصيل أو القصيدة السرديّة أو قصيدة الأشياء...وهذه سُنّةٌ مُتّبعة لدى أولئك الذين لا يكتبون في «زميل» إلاّ إقصاءً له أو زجًّا به في خانةٍ مُعيّنة، للانفراد بما تبقّى من فضاء الشعر الرحب. والحقّ أنّنا أمام تجربةٍ أكثر ثراء من ذلك بكثير. ولعلّها نضجت وتجلّت في مجموعة «جرار الليل» كأبهى ما يكون التجلّي. فإذا نحن أمام تسعة عشر نصًّا التحمت فيها الحياة بالكتابة والمعرفة بالتجربة والحسيّة بالروحيّة. وإذا نحن أمام لغةٍ حديثة متينة تحوّلت بين يدي صاحبها إلى آلة موسيقيّة عجيبة، تفيض بالصمت والبياض وتركّب البحر على البحر وتمزج بين تقنيات قصيدة النثر والقصيدة الموزونة في النصّ الواحد بسلاسة وإحكام. وإذا نحنُ أمام تصوير وتعبير لا تناقض فيهما بين التخييل والتفكير ولا تنافر فيهما بين الصوت والمعنى. في «جرار الليل» نحنُ أمام شاعر مواطنٍ ومواطنٍ شاعر، لا يغمض عينيه ولا يصمّ أذنيه عن شيء من الشأن العامّ، لكنّه لا يكتب في شيء إلاّ إذا أصبح جزءًا من شأنه الخاصّ الحميم. فهو غير معنيّ بأيٍّ من «خرائط الطريق» الشعريّة المسبقة التي يُخضِع لها البعضُ «نَظْمَهُم» لتأكيد التميّز وادّعاء الزعامة. وهو غير معنيّ بأن تكون له سلطة على أحد أو شيء، لذلك تقترح قصائده نفسها على قارئها مُلتزمةً حرّةً مُحرّرة. إلاّ أنّ ذلك لا يمنعنا من الانتباه إلى تجريبيّة نابعة من التجربة لا مسقطة عليها، تتجلّى مثلاً في الاشتغال على تيمة «القبو» التي «تتحوّل» في النصوص وتمنح المجموعة بُنيتَها وتشحن عنوانها بالدلالة، فإذا هي كناية عن القصائد نفسها، تلك «الجرار» أي تلك «الأقبية»، التي يحاور الشاعرُ من خلالها الهاويةَ والسقوط وهشاشة الجسد وإرادة الحياة. كأنّ للشعراء أيضًا أن يكونوا جرارًا مثلما كانت النساء «قوارير». الطريف أنّ «القبو» في مجموعة فتحي النصري مأزقٌ ومنفذٌ في الوقت نفسه. فيه يهبط الشاعر ويخلع ريشه ومنه يستنبت الريش ثانية ويطير (ص10). فيه يولد الالتباس بين أحلامنا وأوهامنا: «نحنُ لا نُشبهُ ما كنّا نريد، وإذا ما هجسَ الشوقُ لنا شيئًا ورُمنا فُسحةً، خارج القبوِ، تناهينا إلى قبوٍ جديد(ص16) »، ومنه ننفتح على ما يعيد البصيرة إلى البصر: «رُبّما احتجنا إلى عاصفةٍ، كي نرى الهُوّةَ تدنُو ص13) ». فيه يحنّ الرفاق ويجدون مهربًا لحين «وقد رابتهم الآفاق واستهوتهم الأقباء (ص26) »، ومنه يخرجون إلى المستقبل وقد فهموا أنّنا «لن نُعادَ خَلْقًا آخر، حتى نبرأَ من هذا الحنين (ص28). في هذه المجموعة نحن أمام شاعر وإنسان لا ينكر انكساراته (ها أنا اللاشيءُ، قال الشاعرُ المكسوفُ في الصورة)، لكنّه لا يولي العالم ظهره في طريقه إلى ذاته أو إلى قبوه، ولا ينطوي على نفسه محتسيًا ما في جراره من يأس أو ليل، فهو يعلم أنّ «في الخارج ينثال الغُبار، يمرقُ القطّ من العتمة مبهورًا، بما حطّ على فروته، من تباشير النهار (ص56) ». إذ ثمّة دائمًا أمل في أن نبرأ من دم الأسلاف،«رُبّما من خبطةٍ عشواء تُمنى، نُطفة الضوء الخبيئة، في حشا الأرض الوطيئة...(ص20)». وبعد: فهذه مرحلة الشتيمة والكراهية بدعوى الجرأة والمسافة النقديّة، حتى كاد أحدنا يُعجَبُ بعملٍ إبداعيّ فيتخفّى كي لا يُضبط متلبّسًا بالحُبّ. وهذه مجموعة شعريّة خصبة مخصبة، تكبُرُ بقارئها وتحلّق، وتوجع وتمتع مثل كلّ شعر جميل. ولستُ هنا لأفِيَها حقَّها بل لأشدّ على يدي صاحبها حيث لا أصحاب، ولأقول لهُ علنًا إنّي مُعجبٌ بتجربته حيث يتستّرُ الإعجاب، «فلعلّ تُسعفُهُ الرؤى، ولعلّ أجنحةً ترفُّ، ترفُّ حتى تبلُغَ الأسباب (ص99) ».