ينتمي الشاعر المكي الهمامي إلى جيل شعريّ حداثي بإمتياز فبداياته كانت معضودة بوعي نقديّ وذلك من خلال اطّلاعه على المنجزات النقديّة الحديثة أثناء دراسته للأدب العربيّ الحديث بكلية الآداب بمنوبة منذ 1998 الى هذا اليوم حيث ينجز ماجستير حول تجربة محمود درويش اختار المكي الهمامي قصيدة التفعيلة نهجا شعريّا وشكلا من أشكال الكتابة مواصلة للتجربة العربية الحديثة التي أسّس لها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ثمّ طوّرها عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وأدونيس ومحمود درويش. ❊ إثم البداية وطفولة العالم: ارتبط الشعر بالطفولة لدى الشاعر المكّي الهمامي، فإذا كان الشّعر في الأصل خلقا فالطّفولة مداره لأنّها مرتبطة باللّعب والدّهشة الأولى والعمل الشعريّ الأوّل الموسوم ب »إثم البداية« يحيلنا مباشرة الى الطّفولة لأنّها النّبع الأوّل »من غبش الدّهشة، يطلع هذا الشعر« ففي الدّهشة والطفولة لذّة الشاعر »منتشيا بحليب الطفولة والكلمات«. ومتعلّقات الطفولة كثيرة لارتباطها الوطيد بالدّهشة من ذلك أنّ »ذهول الشاعر أمام يدي القصيدة يتحوّل الى صلاة«. يعود الشعر دوما الى البدايات الأولى حيث يُصبح استرجاعا للاشياء الضائعة »حين كنّا صغارا، خمشتُ قباب المدى فوق نهديك« ففعل »خمش« فعل طفوليّ صرْفٌ يحيل على اللّعب، حيث »يهرول الشاعر كالنّهر ملتبسا بالغياب«. ومهمّة الشاعر الحقيقيّة حسب رؤية المكّي الهمامي هي مهمةٌ تضعنا أمام عالم طفوليّ »يعيدُ الدّهشة الى عشب الكلام«. عالم الطفولة هو عالم الأسئلة الصغيرة / الكبيرة »حين كنّا صغارا، تمرّ الخطاطيف ملء أصابعنا نبكي: لماذا الخطاطيف لا تستريح على كفّنا!؟«. ❊ الشعر بين عالم الطفولة وقلق التسمية: كثيرة هي المواضع التي تضع الشعر مباشرة في خضمّ الطفولة لعبًا واندهاشا وأسئلة. وكثيرة هي مواضع تسمية الشعر ومحاولة تعريفه تعريفات تضع الشعر مدار تساءل وبحث لأنّ أصلهُ السؤال والشكّ والارتباك.. »من قامات الضّوء الخالق ومن شيء لا مرئيّ يهجسُ فينا، يطلع هذا الشعر«. فالشاعر يعلن منذ البداية أنّ له »شكوكا وأسئلة صعبة« والشعرُ في تعريف الشاعر المكي الهمامي »وهم« »يحاول أن يرى مالا يرى« »تنبت الأوهام بين أصابعي« لكن هذا الوهم حافزٌ فنّي بالنسبة الى شاعر مليء بالقلق. قلق الطفولة بأسئلتها واندهاشها أمام العالم والاشياء والكائنات وقلق تعريف الشعر عبر مسارات صعبة، فالشعر وهم جميلٌ أو هو هذيان واحترافُ غواية وناي مثقلٌ بالتّيه وعبثٌ وانخطاف وشوق وعبورٌ وتسبيحٌ وصلاةٌ وحمحمةٌ وعزلةٌ واحتراقٌ وتحطيمٌ للأصنام وثورة على السائد والمألوف، وخلقٌ للمعنى: »أعطي للوردة والعصفورة والحلوى سحر المعنى« حتّى أنّ القتل يتحوّل الى نوع من الخلق والبناء واللغة البيضاء (التي هي لغة الطفل) لا تكونُ إلاّ بناءً جديدًا للعالم. ❊ خصوصية المعجم في »إثم البداية«: لكلّ عمل شعريّ معجمٌ خصوصيّ يتراوح بين الكثرة والقلّة نزولاً وصعودًا لكنّ هذا المعجم الشعريّ لابدّ أن يكون متناسقًا مع رؤية الشاعر فإذا كانت الطفولة بعالمها المدهش الذي يحيلُ على البدايات (الماء والنّور) فإنّها لابدّ أنّ تكون الى الطبيعة أقرب. وهذا ما جعل معجم الطبيعة مسيطرا على هذا العمل الشعري ومن خلال دراسة احصائيّة يمكن التعرّف على فرادة المعجم الشعري وخصوصيته من ذلك انّه لا تخلو قصيدة من إحدى عناصر الطبيعة (الضّوء، النّبع، الصباح، الضياء، أضأت، الفصول، تفاحة، النّهر، الأرض، البرد، الظّلمة، القوقعة، الرياح، بلّور (أصله الرّمل) الأشجار، الفراشات، الأمطار، السّيول، الماء، الليل، ريح، البحر، الملح، عشب، الطير، أعاصير، نرجس، عصفورة، النهار، السماء، خضرة، شمس، الظلّ، البحار، الضّوء، عروق، الغصن، الخطاطيف، الينابيع، الوادي، الماعز، الجبل، صباحا، الطين، الحجر، الدياجي، الانهار، عسالج، نهر، سماوات، لهيب، النور، الماء، الجمر، صخرة، الشمس، الحقول، ريش، عشبة، نجوم، الموجة، أديم، زجاج، خيول، قطن، فستق، البرتقال، المشمش، العسل... إلخ) إنّ هذه السيطرة المطلقة لمعجم الطبيعة تؤكد ما ذهبنا اليه من أن الطفولة لدى الشاعرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطبيعة، فالشعر هو الطفولة والطبيعة والبداياتُ.. ويمكن تقسيم المعجم الطبيعي الى مدارين: مدار يتعلق بالنّور وبكل الالفاظ المحيلة او الدّالة عليه، ومدار يتعلق بالظلام وبكل الالفاظ المتلبسة به ومن هنا تتأتى خطورة المعجم الشعري ودلالاته فالشعر يتأرجع بين النور والظلام والحضور والغياب والخفاء والتّجلي. ❊ خاتمة: كثيرة هي مميّزات هذا العمل الشعري الأوّل للشاعر »المكي الهمّامي« منها الإيقاع الذي له وجوهٌ كثيرة، ومنها الاشتغال على التراكيب من أجل خلق صور شعرية مبتكرة، ومنها مرجعيّة النصوص، ومنها العتبات التي تجعلُ من آفاق القراءة مفتوحة متشعّبة، ومنها الاشتغال المتفرّد على التشكيل البصريّ وجدلية البياض والسواد في النّصوص. وكلّ هذه المسائل تحتاجُ الى دراسة نقديّة طويلة. ❊ هامش لأوّل مرة أعثر على مجموعة شعريّة تونسية خالية من الاخطاء اللغوية خلافا لعشرات المجموعات الشعرية التي ساهمت في انحطاط اللغة العربية في بلادنا. إنّ الشاعر المكي الهامي شاعرٌ يحتذى به لدى أقرانه في سلامة اللغة العربيّة ويمكن لنا في المستقبل إحداث جائزة أدبية اسمها »جائزة السّلامة الغوية«!!