مرة أخرى يضرب الموت ضربته ويخسر الشعراء العرب في موسم هجرتهم الجماعية إلى الربع الأخير أحد أكثر شعراء الستينات جمالاً وشفافية وذكاء واحتفاء بالحياة علي الجندي، وصفه شقيق روحه الشاعر الراحل ممدوح عدوان: «علي الجندي عاصفة تستيقظ كل صباح» الشاعر الصعلوك الذي خرج عن النمط السائد، سليل القرامطة ، إبن السلمية بلدة الماغوط والمتنبي، أطل على الشعر الفرنسي في نماذجه الأهم والأشدّ سطوعا، عبر قراءة بودلير ورامبو، سمى إبنه البكر «لهب» حتى يكنى بأبي لهب، علي الجندي صلَي النار ذات اللهب خلال حياته المديدة، ترى ألن تغنيه تلك عن النار الأخرى التي تنتظر الآخرين. كان ماجناً ظريفاً وسيماً ونسونجياً بامتياز. عاش للشعر وللحياة ولم يسع إلى شيء آخر غير ذلك ، كنت ألتقيه خلال زياراتي مع كوكبة الشعراء في مطعم «القنديل» أو في مطعم «الشرفة» الخاص باتحاد الكتاب العرب. كان الجميع يحب شتائمه الفنية الناعمة ويتابع مناكفاته مع محمد عمران وممدوح عدوان وزوجته الثانية الكاتبة دلال حاتم التي كان يلقبها ب«دلال دوبا» نسبة إلى رئيس إدارة المخابرات آنذاك اللواء علي دوبا، حيث كانت دلال تراقب كل تحركاته واتصالاته على مدار الساعة، قبل عامين كان آخر لقاءاتي بيعسوب الشعراء وظريف دمشق الراحل في اللاذقية، التي أنهى ترحاله فيها، وكان قد التزم بيته كأبي العلاء المعري، ذهبت لزيارته في اللاذقية بعد أن رفض القدوم الى دمشق، أقنعته بالخروج للعشاء في مطعم محاولة إغراءه: يا أبا لهب، كيف ستكتب شعراً إذا لم تخرج وتلتقي بالحسناوات وتشم عطرهن المتدفق مثل بحر اللاذقية. لا المرض ولا الملذات منعته من التوقيع على بيان ال 99، الذي أصدره نخبة من المثقفين السوريين (كان من بينهم، عبد المعين الملوحي وعلي كنعان وممدوح عدوان، والطيب تزيني ونبيل المالح...)، في أواخر سبتمبر 2000، قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (بلدته التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته «السيول تجتاح سلمية»، حتى صعد ممدوح عدوان المنبر وأتمّ القصيدة عنه)، احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك، مدير المركز الثقافي السابق، وعضو مجلس أمانة إعلان دمشق. ذلك لأنّ الأنموذج الثاني في شخصية علي الجندي كان الشاعر الأموي قطري بن الفجاءة، فارس الأزارقة الذي قال لنفسه وقد طارت شعاعاً: «وما للمرء خير في حياة / إذا ما عُدّ من سقط المتاع» عرف الشاعر منذ بداياته بارتباطه الوثيق بالحركة الشعرية العربية الحديثة خلال الخمسينيات والستينيات، وبصداقة خاصة مع بدر شاكر السياب منذ أول زيارة له الى دمشق. ارتبط بمجلة (شعر) في بيروت، وإن افترق عن «مجلة شعر» في خطها الفكري فإنه اخْتط له أسلوبا خاصا قائما على تجربته الوجودية والحياتية بالدرجة الأولى. سعى علي بنفسه الى تحقيق أمنية أن يدفن في مسقط رأسه، اتصل قبل وفاته بابن أخيه مصعب سامي الجندي ليسأله عن الأرض المجاورة للبيت القديم، موصياً: يا مصعب، يوم أموت تختار لي مكاناً لقبري في أرض السلمية حيث كانت الشجرة الكبيرة.. قسمها كما ترى ولكن لا تنسَ أن تختار لعمك الشاعر الغريب مكاناً لمستراحه الأخير في جهة التراب التي تجاورت مع الروح أيام الطفولة والشباب وإلى اليوم. وقد دفن حسب وصيته، مع وردة وبعض ما أحب طوال حياته. غنائيّته تأخذ شكل الحداء والمراثي، وتنشد موتاً متجدداً، وهزائم دائمة تحيق بالروح. هكذا يستدعي طرفة بن العبد ليؤكد مأساته وفاجعته وتمرّده على عالم مبعثر ومتصدّع. «إن البلاد تضيقُ، تغدو في قياس القبر... جرّوني بعيداً واجعلوا كفني عريضاً واسعاً حتى أرى من عروة الوطن بقايا صورة المنفى». هذه السوداوية نجدها حتى في عناوين دواوينه «النزف تحت الجلد»، أو «صار رماداً» أو «الشمس وأصابع الموتى». اختار حياة الهامش والتسكّع، وكان يردّد: «كتابة تجربتي تحتاج إلى جرأة هنري ميللر» أن تقرأ أشعاره وبين أن تتسقط أخباره لا بد وأن تشعر بانفصام كبير، ذلك أن الشاعر الراحل علي الجندي الذي لا يكفّ الشعراء الذين عايشوه عن تناقل نوادره وطرائفه، لم يكن في أعماقه إلا شخصاً حزيناً وجريحاً، ولعل هذه هي الكلمة السرية المخبأة في قصائده. وما يروى عن نوادرعلي الجندي كثيراً جداً إلى درجة أنه يستحق كتاباً وحده، فالرجل كان بحق رجل مجالس وينبوعاً من المرح، لكنّ مأساة هذا الشاعر الجريح إنما تكمن في هذا بالتحديد، فزملاؤه المثقفون، كتاباً وشعراء، حصروه في هذا الإطار حتى أنه بات خارج التصنيف النقدي لاحقاً، عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة / امنحوني شكل موتي ، رحلتي المنكسرة / ودعوني أحتفي بالميتة المنتظرة / وإجعلوني أنتهي في صورة مبتكرة / شيعوني أنا والنغمة في موكب صمت / شيعوها لغتي المنتصرة . عند زيارته الى تونس في الثمانينات للمشاركة في ملتقى «لوتس» الذي نظمه زياد عبد الفتاح، استضفته بعد المؤتمر لأسبوع مع صديقه الشاعر الفلسطيني علي البراق، أعجبته الجولات في تونس فمزق بطاقة سفره، وقرر في إحدى تجلياته البقاء في تونس، وكانت شبه معجزة تدبر بطاقة ثانية وإقناعه بالسفر. وكاد يعيد الكرة عندما التقيت به وطلال حيدر في باريس، حين أراد العودة معي إلى تونس يرافقه طلال، وكأنه هكذا وببساطة سيرحل من دمشق الى السالمية. في آخر جلسة جمعتني به وممدوح عدوان، كان الطبيب قد طلب من علي الإمتناع عن التدخين والشراب (لكنه لم يمتنع)، وكان له قصيدة: الزمن هو عدوّي يدوس جسدي مخبّصاً عليه بقدميه الحافيتين ويجعلني أشيخ وأموت الموت لا أخافه ولكن أن نشيخ هو العار بذاته. ضحك منه ممدوح قائلاً: متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة فرد عليه علي بضحكة صفراء: متْ أنت، متْ قبلي، وسأكتب عنك ديواناً كلاهما.. ممدوح عدوان وعلي الجندي كانا هدفين جميلين للموت. ممدوح الأصغر مات منذ خمسة أعوام، لكن علي كان قد اختبأ في مكان ما، فبحثت عنه الموت طويلاً حتى يئست من أن تجده، نسيته، وتركته يموت لوحده. كم ستكون الشام مقفرة ومن أحببت يرحلون.