يحث الخطى متسارعة مضطربة.. يطوي الشارع والأزقة نحو شارع واحد قدّر أنه عنوانه، فزقاق يقرأ بين أكوام نفاياته هوية ضائعة طالما بحث عنها، فكوخ كان منفاه ثم يعانق شبحا هزيلا أثقل كاهله المستحيل.. شبح يحمل قلب أم.. جزء من البشر يحمل له بعض الود.. يهرول لأول مرة منذ أمد بعيد لطالما أرهق هذه الأزقة خطى متكاسلة حزينة.. لطالما أضناها وقع أقدامه الماضية بلا وجهة.. يا لقدماه.. بالأمس سعيدتان تجوبان الطرقات حافيتين.. تعانقان شظايا البلور المكسور وتمرحان بطفولة مجنونة.. تداعبان أحضان أبوين كريمين.. وحيدين.. بائسين ومع ذلك سعيدين.. يتنقلان بين مسارح الحياة يؤديان الدور بإتقان يبدعان فيصفق لهما الجميع.. يشدّان أذيال الخيبة.. يرميان المستحيل الى حدود بعيدة مضنية.. الى غير رجعة. كان الفتى يستقبل حياة بلا دموع ولا يذكر دمعة نزلت أو حتى ترقرقت لتداعبها أشعة الشمس على خده ولا أشعة القمر.. يمضي أيامه بين أحضان هذه الشوارع الدافئة تحتويه وأقرانه وتربت على رؤوسهم الصغيرة البريئة.. يضحكون مرة ويبكون مرات يصيحون من ظلم بعضهم بعضا لافتكاك كجة أو استحواذ على لعبة أو في غيرة بريئة خبيثة.. الأبوان.. يداعبان الصحراء.. يلويان قحطها.. يطويان عجزها ويمتصان ظمأها.. يحولان صفرتها ألوان ربيع زاهية دائمة.. يقطفان ورودها ويهديانها وجه الطفل الصغير وشعره الأشعث وقميصه الممزق وحياته المتبخترة على إيقاع الوحدة والبساطة..يا ليت الحزن بقي في ثقب القميص أو في ندرة الخبز أو في جدب الصحراء. كن سعيدا فماذا حدث؟؟.. تركه أبوه وبقي يرقص وحده وأمه.. الى أين؟؟ لماذا؟؟ لا يدري.. بقيت أمه تلملم جراحه وجراحها وهو مشرد.. قست عليه الشوارع الدافئة وابتلعته غربتها ابتلاع الأفعى الجائعة.. بالأمس صادقها وسلمها جسما كساه عراء وقلبا مملوءا دما وجبنا وكبرياء.. لماذا تنكرت له الأنهج وأنكرته الطرقات؟؟ ومنذ ذلك التاريخ وهو يتمرد على الأشياء.. يلعن الظروف.. ويا ليتها تنتهي بمجرد لعنها. بقي يتبعثر بين البداية والنهاية وبقي سؤال محير لا يثير اهتمام أحد وارتمى بين الكل ينشد ودا ويفترش بقايا هوية كاذبة.. توسّلت أمه.. سألته حنينا.. طالبته مسؤولية تجاهها وتجاه نفسه فلم يدر من المسؤولية غير الضياع والتيه والاغتراب.. لم يدرس ولم يعمل ولم يمض في معترك الحياة واعتزل دوره في الدنيا. بقي طفلا يشب ويكبر يتناول شطائر اليأس والأيام تمر وهو يجلس كما هو.. تكبر قسوته وغطرسته وكرهه لكل شيء. لم يرض أن يقف وأمه يواصلان تأدية الدور خجلا من الجمهور.. أما هي فلم تحقد عليه ولم تقنط منه ووقفت كل يوم على بابه وكانت الأم هي الأم.. سهرت كل ليلة على سريره وهو يتحاشاها ولا يكلمها يفرّ منها ومن أسئلتها.. ترجوه وتذكره بصمته وهو صامت.. يرتمي بين رفاق السوء يسقونه ماء الموت بذلة.. وتظلم في عينيه الصحراء وتضيق على رحابتها وتبتلع خيالاته التي امتدت بين حناياها.. ويأسف.. اليوم عاد.. سيخبرها أنه غير وجهته وأنها حيث عجزت أعاده مجنون القرية ميم الى سابق عهده.. أيعقل؟؟ يلتقي مجنونا فيعيد إليه أحلامه وماله ينزع عنه ثوب الهزيمة والعجز.. قد التقاه طويل القامة أسمر كالأغنيات.. مغبر أشعث.. مقطع الأثواب «قد أثقل الإملاق ممشاه».. قل أنه كان مدرس رياضيات لتلاميذ الأقسام النهائية وقيل أنه جن من قسوة هذا الجيل.. قيل أنه شديد الأيمان بعمله أوكان المهم أنه اختار طريقه بعيدا عن كنه البشر وترك لهم حلبة الصراع الأبدي.. تنازل لهم عن كل شيء واختار لا شيء.. وقد سمع عنه الفتى كثيرا.. واليوم التقاه بين كومة النفايات والمبادئ المتهرئة.. بين أكوام القناعات المتروكة..» ميم «لايدري إن كان هذا هو اسمه قبل الجنون أوبعده.. أو هو اسم أطلق عليه من بعض ذوي الخير كما تطلق عليه أسماء ونعوت عديدة.. بحث عنه ولا يدري لماذا ربما لشفقة أو احتياج أوتساؤل لم يجد له جوابا بين العقلاء.. لعله يجده عند هذا الذي نبذ من أهله وذويه الذين كنسوه بين المزابل كأي خرقة انعدمت حاجتهم إليها.. فبحث المسكين عن ركن هادئ بين الأشجار ولقمة تسدّ الرمق بين البقايا.. كان الفتى يراه وأقرانه فيهرب خوفا منه.. طويل القامة أسمر كالأغنيات.. يرتمي بين أكياس النفايات يفتش عن فتات الخبز وبقايا الأكل وأحيانا كثيرة تشح الأكياس فلا يجد للأكل بقية. كان الفتى دائما يتساءل ما الذي ينتهي بمدرس الرياضيات بين النفايات ينشدها البقاء وأي بقاء وهو الذي فرّ بالأمس هاربا منه. ميم أستاذ ميم.. .................... أتسمعني؟؟ أتفهمني؟؟ أعرف أنك تدعي الجنون.. أجبني أرجوك.. مسكين ابن آدم مسكين. آه.. أنت تتكلم..؟؟ كنت أعرف ذلك.. ................... ميم أنا حزين أنا متعب أنا لا أعرف ما بي.. لا أريد أن أعيش.. لا أريد أن أموت.. أنا.. لا أريد شيئا.. أتشعر بمثل ما أشعر به؟.. هل أنا مجنون؟؟ مسكين ابن آدم مسكين لقد تركنا والدي ولم يترك لنا شيئا.. أعرف أنه تعب.. الحياة متعبة والبحث عن القوت كالبحث عن المجهول.. لكنه مخطئ ما كان عليه أن يرحل.. لمن يتركنا؟ ابن آدم مسكين لولا أمي يا ميم.. إني إذ أراها تشدني للحياة شدا.. تمسك بي تكبلني.. كالأغلال.. أنالا أريد منها شيئا وهي كذلك.. عجزت أن أتركها لكني تركتها.. ابن آدم مسكين ماذا أفعل؟؟ لماذا لا تجبني؟ أجبني.. أجبني ....................... أجبني أيها الأخرس أيها المجنون.. ابن آدم مسكين لماذا لا تجبني أنت أيضا ترفضني؟؟ وترك الفتى المزابل والأبله وهو يحاول تحرير ذاته أخيرا من براثن اليأس ولا يود أن تنتهي به بين تلك الأكوام وأحس أنه يهرب هو أيضا تماما كأبيه هو أيضا يهرب برونق كذاب.. دبّت من خلال حواسه مشاعر جديدة.. مشاعر مسؤولية تجاه أمه ونفسه وسارع الخطى في اتجاه كوخه ليلقاها.. سيخبرها أنه لن يهزم بعد اليوم ولن يهرب.. إنه اختار طريقه وعرف دربه.. سوف يسعدها وسوف يعجبها.. سوف تستقبل ابنا جديدا بعد ثلاثين سنة من الألم سوف تسعد.. سوف تراه رجلا يستقبل الحياة ويهزمها.. سوف يترك حلقات السكر والعربدة ولن يبيعها بعد اليوم.. طالت المسافات.. لماذا يبعد كوخه ويتباعد.. وهو يطيعها وهي تمتد.. يتعثر في الأحجار ويسقط ثم ينهض.. أحجار الأمس الصامتة ها هي اليوم تهدئ من روعه.. وهو يتمنى لو أنه حمامة يزف النبأ العظيم إليها.. نبأ انتظرته طويلا.. ذاك القلب الذي به بعض الود.. ما كان يكلمها.. لم يقل لها أمي منذ زمن.. سيكلمها.. لن ينقطع صوته أبدا.. سيحدثها عن أحلامه وآماله وعن بره لها الذي طالما رجته.. ودعت لأجله. وجد الباب مفتوحا فدخل.. كأنه يرى كوخه لأول مرة.. هذا الكوخ البائس الحزين.. ما أحقره.. كم عاش فيه وهو بال وهو لا مبال؟؟ أمي.. أمي.. .............. وبحث بين أكوام الحجارة في أرجاء الكوخ البائس الحزين.. ولفتت نظره كومة أدباش متهرئة رثة.. متقوقعة.. ملتصقة بركن.. ركن بعيد مظلم.. فالتجأ إليها يقرأ بين خفاياها حقيقة مرة.. تركته.. قبل أن تسمع صوته.. تركته بلا وداع وبلا وجهة.. كان ذلك الجزء من البشر يؤنسه ويبدد غربته.. كان جزءا صغيرا مثقال ذرة يستشعر منه بعض الدفء والحياة.. وتساقط كالجبل الذي تصدع من خشية الماضي الحزين والغد المجهول.. وولجت يداه تهزان الكومة الماضية بلا رجعة وتنفضان عنها غبار الموت الذي نهش أركانها بلا سابق موعد..ويهز رأسا مثقلا بالأوجاع ناحية حشرجة على باب الكوخ.. فرآه.. يبتسم بشعره الأشعث ووجهه المغبر.. بعيونه اللامعة.. بالارتياح والسعادة وبقايا الكل.. أكل المزابل تهبط من على لحيته لتستقر على صدره.. وهو يقف هازئا.. هادئا.. أسمر طويل القامة كالأغنيات.. يلتفت له الفتى فيبتسم. ابن آدم مسكين نهض الفتى تاركا الجثة المتأرجحة بين الصمت والوداع.. وانقضت كلتا يديه على المعتوه يهز كتفيه ويضرب صدره ويصيح.. رحلت يا ميم لم تنتظرني.. لطالما انتظرتني فلم أعد.. لطالما أرهقتها ألما وأحزانا على مصيري.. لطالما حملت بين ضلوعها ألمي وحزني وحزن والدي.. لطالما كانت وفية ولم تهرب.. لماذا تهرب اليوم؟ لماذا ترحل اليوم؟.. إني أريدها سأخبرها أني عدت وأصبحت رجلا.. لماذا ذهبت يا ميم وطفق يشد رقبة الأبله ويضربه.. ينهال عليه ضربا ولطما ويسقطه أرضا.. وأفرغ قسوة زمن ممتد بسنوات الظلم والعجز والوحدة.. وأفرغ كمّا هائلا من أعماقه.. وفجأة صمت واكتفت يداه بما اقترفت.. تداعت بقايا الرجل بين يديه..وهزّه.. ونفضه.. فلم يستجب.. وتساقط.. كأوراق خريف صفراء واهنة.. وقهقه الفتى.. قهقهة جنونية وهو يعالج الجثة الجديدة.. ونهض.. تأمل ضحايا الزمن الغابر. ثم مشى وجرى وآلاف الأقدام تجري خلفه.. آلاف الأقدام التي لم يعهدها من قبل.. تلاحقه وتركض خلفه.. وهو يركض ويقهقه.. والكل يجري وراءها وهو يجري الى وجهة يعرفها.. هناك.. في هدوء المزابل.. بين بقايا البشر.. مع المبادئ المتهرئة والقناعات المتروكة.. يتمتم ويقهقه. ها.. ها.. ها.. مسكين ابن آدم مسكين ها.. ها.. ها..