إن تونس الحديثة والمعاصرة تزخر بالعديد من المناضلين والمقاولين الذين أفنوا حياتهم في سبيل الدفاع عن حرمة الوطن والذود عن كرامته والمساهمة في حركة التحرير وفي كل المعارك التي خاضها أبناء هذا الشعب ضد قوى البغي الاستعمارية وضد أعداء الوطن الموالين للاستعمار والمتواطئين معه أمثال البايات وحاشيتهم، وقد امتدّ ذلك النضال المرير اكثر من ثمانين سنة، اي منذ دخول جيوش الحماية الفرنسية ارض الوطن، عبر جبال خمير، قادمين من الجزائر في 12 ماي 1881 وحتى جلاء آخر جندي فرنسي عن بنزرت في 15 أكتوبر 1963، بعد حصولنا على الاستقلال التام في 20 مارس 1956 وما تلاه من معارك ضد الجيش الفرنسي في رمادة، وساقية سيدي يوسف وغيرهما من أماكن تونس العزيزة. ولهذا يحق لنا معشر التونسيين ان نفتخر بزعمائنا وشهدائنا ومقاومينا وبمناضلينا الميامين وأن نترحّم على أرواح الأموات منهم، وأن نكبر ونقدّر ما تبقى من الأحياء خاصة وقد أصبحوا جميعا منذ انبلاج فجر التغيير المبارك في السابع من نوفمبر 1987، محل رعاية موصولة من سيادة الرئيس زين العابدين بن علي، الذي أعاد لهم الاعتبار وكرّمهم ووسّم الأحياء، واحتضن عائلات الزعماء والشهداء والمقاومين وأشاد بخصالهم، ورفع من شأنهم معتبرا في ذلك كما قال سيادته في خطابه المنهجي: يوم 30 جويلية 2008 بقصر المعارض بالكرم في افتتاح مؤتمر «التحدي»: «ان نجاح حزبنا في معركة التحرير وفي بناء الدولة الحديثة وإشعاعه في مختلف الأطوار التاريخية التي مرّ بها شعبنا يعود أساسا الى محافظة مناضليه على التماسك ووحدة الصفوف وتكريس التواصل والتكامل بين مختلف اجياله من كل الأعمار والفئات والجهات، لا فرق بين هؤلاء وأولئك الا بالنضال والإفادة والتضحية». إسهام فاعل ومن أبرز رموز الكفاح الوطني زمن الاستعمار والنضال من أجل الاستقلال وفي مطلع بناء الدولة الحديثة، نذكر المناضل الكبير المرحوم جلولي فارس الذي كان له إسهام فاعل في الفترتين قبل الاستقلال وبعده الى جانب اشعاعه الخارجي في إطار تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة سنة 1948، وتقديم مذكرة الى الأممالمتحدة تصف واقع الشعوب المغاربية في العهد الاستعماري وما كانت تذوقه من الويلات، وما كان يسلط عليه من تعذيب وإهانات. فمن هو المناضل جلولي فارس؟ وما هي أبرز نضالاته؟ وماهي المهمات التي تقلدها في حياته؟ هو جلولي بن عمار فارس، ولد بالحامة (من ولاية قابس) بالجنوب الشرقي، يوم 6 مارس 1909 ودخل الكتّاب ثم المدرسة الابتدائية هناك ودرس بعد ذلك في الثانوية في تونس العاصمة لينتقل بعد ذلك الى فرنسا ويواصل الدراسة الجامعية فتحصل على الاجازة، ثم عاد ليباشر مهنة التدريس، الا انه كان كغيره من الشباب المثقف، غيورا على وطنه حاقدا على الاحتلال الفرنسي، متشبعا بمبادئ ثورات الشعوب الاوروبية، دارسا للحقوق والواجبات التي يتمتع بها مواطنو تلك المناطق فأنضمّ الى مسيرة الكفاح والعمل السياسي والحزبي، منذ ان كان طالبا في باريس حيث كانت السلطات الاستعمارية تعتبره من الدستوريين الحركيين المعروفين بحماسهم الكبير وإقدامهم على التضحية والفداء. وتواصل نضاله السياسي في الحزب الحرّ الدستوري الجديد الى جانب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ورفاقه، فانتخب عضوا للديوان السياسي في عديد المؤتمرات في مؤتمر دار سليم في أكتوبر سنة 1948 ومؤتمر سيدي محرز في جانفي سنة 1952 ومؤتمر صفاقس في 15 نوفمبر سنة 1955 وهو مؤتمر الحسم والقطع مع اليوسفية. على إثر اعلان منداس فرانس في 31 جويلية سنة 1954 منح تونس الاستقلال الداخلي، عيّن الفقيد الراحل جلولي فارس وزيرا للتربية، وعند حصول البلاد على الاستقلال التام في 20 مارس سنة 1956 تم انتخابه رئيسا للمجلس التأسيسي، في 8 أفريل من نفس السنة، وهو اول برلمان تونسي في عهد الدولة الحديثة، تلته رئاسته لمجلس الأمة الى سنة 1964 وقد كان الى جانب ذلك متحملا لمهام جهوية ومحلية حيث ترأس مجلس بلدية الحامة مسقط رأسه على مدى عدة سنوات. على أنه ينبغي الإشارة الى احدى خصال المناضل الكبير جلولي فارس، وهو توليه كتابة مذكرة مطوّلة عن الحالة السياسية بتونس وبالمغرب العربي، تصف طغيان الاستعمار الفرنسي ودوسه كرامة شعوب المنطقة المغاربية وقد قدم تلك المذكرة التاريخية المهمة الى هيئة الأممالمتحدة، وبالتحديد الى م. تريقفلي الأمين العام للمنتظم الأممي في يوم 2 نوفمبر 1948 وذلك باسم الحزب الحر الدستوري الجديد ونيابة عن حزب الاستقلال المغربي وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية الجزائرية. ومما جاء في تلك المذكّرة التاريخية بالخصوص، لفت نظر هيئة الأممالمتحدة الى خطورة الحالة في شمال افريقيا الناتجة عن السياسية الاستعمارية لفرنسا، والمتميّزة بأمور مناهضة لحقوق الشعوب والأفراد وملخصها: 1 الاعتداء على السيادة القومية في كل أقطار شمال افريقيا وتحطيم ذاتيتها الشخصية 2 إقرار إدارة أجنبية احتكرت جميع السلط، واستولت على مصادر الثروة الحيوية في الأقطار المغاربية: تونسالجزائر المغرب وليبيا. 3 الازدراء بمصالح الأهالي وحقوقهم وإدخالهم تحت نظام مبناه الاستثمار (الاستغلال) واضطهاد من أفظع ما يكون. كما لفت في تلك المذكرة المنتظم الأممي حول السياسة العنصرية للاستعمار التي تتنافى ومبادئ الأممالمتحدة والتي تهدد السلم والأمن في حوض البحر الابيض المتوسط ورأت ان الحل الوحيد لتلك الازمة التي استفحلت يكمن في: 1 إلغاء النظم الاستعمارية بشمال افريقيا والاعتراف باستقلال مراكشوالجزائروتونس وليبيا. 2 انتخاب مجلس تأسيسي انتخابا حرّا في كل قطر من أقطار المغرب العربي، يسنّ لكل واحد منها دستور ديمقراطي يجدّد نطاق السيادة القومية (الوطنية) والمصالح المشروعة للأجانب المقيمين بشمال افريقيا. وقد أمضى على تلك المذكرة المناضلون المغاربة الكبار مهدي بن بركة وأحمد مزغنة وجلولي فارس. وقد كانت تلك المذكرة مشفوعة بتقرير ضاف شاف للحالة السيئة التي تعيشها أقطار المغرب العربي وشعوبه في ظل استعمار بغيض وسياسة تعسفية تعتمد التجويع والتفقير والتجهيل والإقصاء والتهميش، وفي ظل إدعاء وجود الاستعمار وبقائه نظرا الى ان شعوب تونسوالجزائر والمغرب كانت عاجزة آنذاك عن تسيير شؤونها بنفسها وان خروج فرنسا قد يجرّ حتما دخول استعمار آخر. وقد ختمت كل تلك الآراء بتصميم الزعماء المغاربة ومنهم الراحل العزيز جلولي فارس، على بذل كل ما لديهم من جهد لتحقيق تحرير الشعوب المولى عليها، تحريرا تاما. إعادة اعتبار في شهر أوت سنة 2001 وأنا في طريقي الى ولاية مدنين كان لي آخر لقاء مع المرحوم جلولي فارس اي شهر فقط قبل وفاته فقضيت معه ومع أفراد اسرته بالحامة يوما كاملا في غرفته بالطابق الأول في منزله بالحامة، فكان المرحوم جلولي فارس كعادته كريما بشوشا وشهما وواعيا متذكرا كل التفاصيل عن مساهماته الفعلية رفقة الزعماء والشهداء والمقاومين على مستوى ولايات الجمهورية في الحركة الوطنية وفي القضية التونسية من اجل نيل تونسنا العزيزة الاستقلال والحرية والجمهورية. لقد أطلعني المرحوم جلولي فارس على صورته التاريخية مع سيادة الرئيس زين العابدين بن علي معلقة في بيته حيث أكد لي شخصيا اعترافه بالجميل للعناية السامية التي احاطه بها سيادة الرئيس الذي اتصل به هاتفيا عديد المرات للسؤال عن حالته الصحية مكبرا في سيادة الرئيس التفاتته بإعطاء الإذن قصد معالجته بالمستشفى العسكري بتونس وتخصيص طبيب وممرض لمراقبة حالته الصحية بمدينة الحامة طيلة مرضه الى ان أدركته المنية يوم 20 أكتوبر 2001 وأبّنه نيابة عن سيادة الرئيس زين العابدين بن علي الدكتور حامد القروي بصفته آنذاك النائب الاول لرئيس التجمع، بعد ان كان سيادة الرئيس ردّ له الاعتبار عندما كان حيّا بتعيينه رئيسا للمجلس الاستشاري للمقاومين والمناضلين بالتجمع، ومنحه الصنف الأكبر من وسام السابع من نوفمبر تقديرا لخدماته الجليلة التي قدمها لفائدة الحزب الوطن، واعترافا بجهوده النضالية وبتضحياته من اجل خدمة تونس ومناعتها وذلك في إطار رعاية سيادة الرئيس الموصولة للمناضلين والمقاومين وهو الذي أعاد ذلك التأكيد في خطابه المنهجي «لمؤتمر التحدي» يوم 30 جويلية 2008 والذي قرر فيه ان يعرض على المؤتمر تنقيحا للفصلين 23 و27 من النظام الداخلي للتجمع يتعلق بتحويل المجلس الاستشاري للمقاومين الى مجلس المقاومين (وكبار المناضلين) لينتفع اكثر على الاجيال الحاضرة من المناضلين الذين كانت ولا تزال لهم إسهامات فاعلة ومتميّزة في بناء الدولة الحديثة والذين يواصلون البذل والعطاء والمثابرة دون حسابات ولا غايات وأهداف، فكانوا خير سند للتغيير ولمشروعه الاصلاحي، ما يتعلق التنقيح بتمكين اعضاء هذا المجلس من ان يكونوا بصفتهم تلك اعضاء باللجنة المركزية للتجمع الدستوري الديمقراطي، وهو قرار حكيم ومكسب جديد يضاف لسجل حزب الأمة العتيد في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، صانع التغيير وراعي المقاومين والمناضلين وكل التونسيات والتونسيين.. بقلم المنصف بن فرج مؤلف كتاب لمحة النضال التونسي من خير الدين الى زين العابدين