إنّ من أنبل المعاني في تونس الوطن تحقيق المصالحة الوطنية والاعتراف بخدمات الزعماء والشهداء المناضلين الذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل الوطن، خاصة زمن الاستعمار البغيض وفي سنوات القهر والاضطهاد، وفي هذا الإطار أحاول اليوم بعد البحث والتنقيب وتسليط الأضواء على نضال أحد زعماء تونس في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين إلى أن توفي شهيد الكفاح وهو في مهمة كان كلفه بها الديوان السياسي، إثر اصطدام الطائرة التي كان يركبها بقمة جبل، فسقط شهيد، النضال السياسي وفقدنا انذاك بوفاته، وفقد الحزب الحر الدستوري التونسي والمغرب العربي زعيما كرس حياته وجهده للعمل على مقاومة الاستعمار في تونسوالجزائر والمغرب وليبيا، وتحقيق العزة والكرامة لأبناء بلادنا وكل أقطار المغرب العربي. فمن هو الشهيد الدكتور الحبيب ثامر؟ وما هي أبرز أعماله البطولية ومساهماته النضالية من أجل تونس وشمال إفريقيا والمغرب العربي؟ أطروحة ولد الشهيد الحبيب ثامر في يوم 9 ماي 1909 بتونس العاصمة، في نهج سيدي بن عروس، من عائلة عريقة معتزة بجذورها العربية الإسلامية إلى جانب علاقتها الوثيقة بالعائلة الحسينية الحاكمة، وتلقى تعلمه الابتدائي والثانوي بالمدرسة الصادقية، التي كان أنشأها الوزير المصلح خير الدين باشا سنة 1875 في عهد محمد الصادق باي، لنشر العلوم العصرية والثقافة المستنيرة، وهناك تحصل على شهادة ختم الدروس، وعلى شهادة البكالوريا، ثم تحول إلى فرنسا، ليدرس الطب، في كلية تولوز أولا ثم في كلية الطب بباريس، وتخصص في الأمراض الصدرية وحصل على الدكتوراه في الطب سنة 1938، واختار أن يكون موضوع أطروحته عن «مقاومة مرض السل بتونس» وهو ما يعني اهتمامه بكل أحوال المجتمع التونسي ورغبته في مقاومة كل ما يصيبه من داء. وفي تلك الفترة بفرنسا، تمكن المرحوم الحبيب ثامر من الاتصال برفاق الدرب والنضال من التونسيينوالجزائريين والمغاربة أمثال أحمد بن ميلاد وعلي البلهوان وفرحات عباس ومحمد الفاسي وغيرهم من الشباب المغاربي، وأعادوا إحياء جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين في خريف سنة 1930 أي في العام الذي استفحلت فيه الأوضاع بأقطارنا المغاربية، إذ احتفل المستعمرون بمائوية احتلال الجزائر، ثم بخمسينية إقامة الحماية بتونس، ونظموا المؤتمر الأفخرستي المسيحي بقرطاج، إلى جانب الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد عملت الجمعية على مساعدة الطلبة العرب الوافدين من شمال إفريقيا كي يواصلوا دراستهم بأوروبا، كما كثف أعضاؤها الاتصال باليد العاملة المغاربية لتوعيتها بأوضاعها وبأوضاع الأقطار الثلاثة الرازحة، آنذاك، تحت نير الاستعمار وبطشه وتمادى أعضاء جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين في نشاطهم وكانت مطالبهم تتمحور حول مسائل جوهرية منها. توجه مغاربي توفير التعليم لأبناء أقطار المغرب العربي، إذ أن العلم هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتحرير الشعوب من كل أشكال الوصاية والهيمنة والإذلال، ومنها كذلك ضرورة استعمال اللغة العربية بصفة رسمية في المدارس والمعاهد، ونادوا بوجوب إقرار برنامج تعليمي موحد لكل بلدان المغرب العربي، وألحوا على إدراج مادة التاريخ والحضارة العربية الإسلامية، وعلى ضرورة تعليم البنت والمرأة ضمانا لتربية الأجيال القادمة، ولقد كان دور الزعيم الشهيد الحبيب ثامر فاعلا في تلك الجمعية، بحيث كان كاتبها العام في الدورات الثلاث، ثم رئيسا لها فيما بعد، بمؤازرة رفاق دربه المرحومين الهادي نويرة وعلي البلهوان والمنجي سليم والصادق المقدم وغيرهم من أبناء تونس، إلى حد أن المخابرات الفرنسية اعتبرت جمعية طلبة شمال إفريقيا فيما بين سنة 1934 وسنة 1937 خلية دستورية تونسية في باريس. وقد تجلت في تلك الفترة وطنية المرحوم الحبيب ثامر ونضاله السياسي، وكذلك اتضح توجهه المغاربي، ولعل ذلك خير مساعد له على أن يكون فيما بعد من مؤسسي مكتب المغرب العربي في القاهرة سنة 1947، وفي سنة 1938 شهدت تونس أحداثا كبرى أهمها حوادث 9 أفريل التي انتصر فيها الشعب وشبابه، بقيادة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وزعيم الشباب المرحوم علي بلهوان في مظاهرة عارمة، مطالبين فيها السلطات الاستعمارية بإقامة برلمان تونسي، ولكن البوليس الفرنسي قبض على الزعماء وزج بهم في السجن، إلا أن الحبيب ثامر، الذي عاد إلى أرض الوطن في تلك السنة بالذات، أخذ عن رفاقه المشعل وسطر برامج لإحياء الحركة الوطنية، وظل على استبساله ونضاله الدائم دون كلل ولا ملل حتى ألقي عليه القبض صحبة ابن خاله المناضل المرحوم الطيب سليم في جانفي 1941، وحكم عليهما بالسجن مدة عشرين سنة، مع الأشغال الشاقة، لولا دخول قوات المحور إلى تونس في نوبمبر 1942 فأطلق سراح المساجين السياسيين من السجن المدني بتونس إثر انتفاضة وعصيان أعلنوها بتدبير من الحبيب ثامر. مخاطر وامتثل الحبيب ثامر لتعليمات الزعيم الحبيب بورقيبة بعدم الميل مع جيش المحور ضد جيوش الحلفاء، توقعا لهزيمة قوات المحور الوشيكة، وإيمانا منه بخطر الفاشية والأنظمة الكليانية على العالم، يؤكد ذلك مقاله الذي توجه به إلى الزعيم بورقيبة في جريدة «إفريقيا الفتاة» التي كان يوم 7 فيفري 1947 كما تؤكد ذلك مواقف المناضل الحبيب ثامر المتصلبة في محادثاته مع رودولف، راهن ممثل النازية الذي أقام بدار حسين (في تونس العاصمة)، وتحركه لإيقاف نشاط جمعية «شباب محمد» التي سخرها الألمان لأغراضهم الدنيئة، وقد كان المحور يحاصر المناضل الحبيب ثامر في كل مكان ويتابع تحركاته ويحلل بكل عناية كتاباته ومقالاته المتعددة والمتنوعة، حتى أنه كاد يقع في فخهم سنة 1944 عندما سافر إلى باريس في مهمة وطنية حزبية، إلا أنه خيّر أن يعود إلى تونس عبر إسبانيا خلسة، فقطع النهر سباحة، وكاد يموت غرقا، ولكنه نجا من الموت بأعجوبة، والتحق برفاقه هناك، وفي طليعتهم عميد المناضلين السفير الرشيد إدريس والمرحومين الهادي السعيدي والطيب سليم وغيرهم ولما علم الجماعة بوصول الزعيم الحبيب بورقيبة إلى القاهرة في أفريل 1945، اجتهدوا في الالتحاق به ولم يستطيعوا الحصول على التأشيرة المصرية إلا بعد أتعاب وتدخلات متنوعة ومشقة، وفي جوان من سنة 1946 تمكن الحبيب ثامر ورفاقه من دخول مصر، والاتصال بالزعيم بورقيبة، وقد تأسست قبل مجيئهم الجامعة العربية في 22 مارس 1945، ورغم ذلك فقد ظل المناضل الحبيب ثامر متشبثا بتوجهه المغاربي مدافعا عنه بقوة إلى أن التأم فيما بين 15 و22 فيفري 1947 مؤتمر الأحزاب المغاربية ووقع الاتفاق على تكوين مكتب المغرب العربي، تولى إدارته الحبيب ثامر. ولئن أقام المرحوم بمصر، فلقد ظل على صلة وثيقة بتونس وبأوضاعها، وكان ينشر عنها المقالات في أبرز وأكبر الجرائد المصرية، وألف كتابا قيما قام بنشره وتوزيعه على حسابه الخاص أرخ فيه تاريخ الحركة الوطنية التونسية عنوانه «هذه تونس»، ورغم غيابه عن أرض الوطن، فقد انتخبه الدستوريون، يوم 17 أكتوبر 1948، في مؤتمر «دار سليم» رئيسا مساعدا للحزب الحر الدستوري التونسي، اعترافا له بجليل الأعمال وبنضاله ووطنيته الصادقة والنزيهة ودون أهداف ولا غايات دنيوية. وفي شهر نوفمبر من سنة 1949، عهد الديوان السياسي إلى المرحوم الحبيب ثامر بمهمة تتمثل في حضور المؤتمر الاقتصادي الإسلامي الذي وقع في باكستان، بعاصمتها كاراتشي، فاضطلع بالمهمة على أحسن وجه ومثل تونس خير تمثيل، وإثر انتهاء أشغال المؤتمر، قام بجولة في باكستان وألقى محاضرات هناك معرفا بالقضية التونسية، ولما كان عائدا من مدينة (لاهور) الباكستانية إلى العاصمة كاراتشي، ليلة الثلاثاء 13 ديسمبر سنة 1949، اصطدمت الطائرة التي كانت تقله، بقمة جبل، فلقي حتفه مع كل المسافرين ومنهم علي الحمامي الجزائري ومحمد بن عبود المغربي. هذه فكرة موجزة عن حياة الزعيم الشهيد المرحوم الدكتور الحبيب ثامر الذي كان مثالا للوطنية وللعطاء والبذل والتضحية من أجل تونس وشعوب المغرب العربي والعروبة والإسلام قاطبة أذكر بها لعل الذكرى تنفع الذين لا يعرفون إلا القليل والقليل عن المرحوم الشهيد الحبيب ثامر ودوره البطولي من أجل القضية الوطنية والتوجه المغاربي والعربي الإسلامي. مؤلف كتاب «ملحمة النضال التونسي من خير الدين إلى زين العابدين»