تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقاش وجدل حول كلمتي «التحرير» و«الاستقلال»
الحركة الوطنية التونسية ومطلب الاستقلال (1881-1956):(3/4)
نشر في الصباح يوم 23 - 08 - 2007

توظيف ورقة الضغط الأمريكي على السياسة الاستعماريّة الفرنسية
تنشر «الصباح» اليوم الحلقة الثالثة من الدراسة القيّمة التي خصها بها الأستاذ محمد لطفي الشّايبي حول الحركة الوطنية التونسية ومطلب الاستقلال (1881-1959) والتي كشف فيها عن وثائق نادرة عن الحركة الوطنية مع الإشارة إلى أن الحلقة الأولى.
نشرت في عدد يوم الثلاثاء 21 أوت 2007.
أما الحلقة الثانية فقد نشرت في عدد يوم الأربعاء 22 أوت 2007.
III - الحزب الحرّ الدستوري الجديد وتوخّي سياسة المراحل (1934-1956)
شهدت الحركة الوطنية بصفة عامة والحزب الحرّ الدستوري بصفة خاصة تطوّرات هامة شملت على حدّ السواء طرق العمل وبرامج المطالب في الفترة الممتدّة من 2 مارس 1934 تاريخ انعقاد مؤتمر قصر هلال إلى تاريخ إمضاء برتوكول الاستقلال يوم 20 مارس 1956. ولئن تمكّن الحزب الحرّ الدستوري الجديد من التأثير على شرائح كبيرة من الرأي العام الوطني التونسي والقيام بدور القاطرة الدافعة بالقوى الحيّة في حلبة النضال الوطني وذلك بالسعي إلى تأسيس جبهة عريضة مناهضة للاستعمار فإنّ الحركة الوطنية كانت تضمّ أيضا مكوّنات قديمة (بقايا اللّجنة التنفيذية للحزب أو ما يسمّى بالحزب القديم) وجديدة (الحركة الزيتونية إثر الحرب العالمية الثانية) وظرفية (الحركة المنصفية من 1943 إلى 1948).
"وبالتالي فإنّ ميلاد الحزب الدستوري الجديد كامتداد للحزب الدستوري الأصلي وكتغيير له هو، كما يشير إليه زهير الذوّادي، حدث سياسي مؤسّس لمرحلة تاريخية جديدة، حيث أصبح القوّة القائدة للعمل الوطني، الموحّدة حولها أوسع الفئات الشعبية التي كانت فيما مضى تناصر الحزب الدستوري القديم مع اقتحام قوى اجتماعية جديدة في جدلية الكفاح بالرّغم من أنّ بعض الأوساط بقيت بعيدة عنه نسبيا مثل أعيان المدن والوسط الزيتوني والحركة النقابية والعمّالية المنضوية في النقابات الفرنسية. لكن تطوّر الأوضاع بالبلاد خلال الأربعينات والخمسينات سوف يصحّح مسار تلك الحركات والأوساط ويجعلها تتفاعل إيجابيا مع التوجّهات السياسية الجديدة للحركة الوطنية التونسية"54.
ويمكن رصد موقف الحركة الوطنية بصفة عامة والحزب الحرّ الدستوري الجديد بصفة خاصة إزاء مطلب الاستقلال من خلال لوائح المؤتمرات التي عقدت من 1934 إلى 1955، 55. والمراوحة بين فترات الحوار والقمع التي تخلّلت هذه الفترة بالرّجوع إلى الخطاب الوطني الرّسمي المنشور في الصحف أو المبيّن في الرسائل المتبادلة بين القادة الوطنيين56 ، وإلى وثائق الأرشيف الخاص المتعلّق برجال الحكومة الفرنسية في فترة المفاوضات التي أدّت إلى الاستقلال كما أشرنا إليه في المقدّمة.
الملفت للنظر، أنّ ميلاد الحزب الحرّ الدستوري الجديد لم يصحبه تغيير في البرنامج المطلبي الذي أقرّه مؤتمر نهج الجبل قبل الانشقاق (12-13 ماي 1933) بل أكّد الديوان السياسي نهجه هذا في العدد الأوّل من جريدة "العمل" (1 جوان 1934) حيث جاء في الافتتاحية أنّ برنامج الحزب الحرّ الدستوري الجديد "ليس إلاّ برنامج الحزب الحرّ الدستوري الذي قرّره المؤتمر السنوي المنعقد بتونس في ماي 1933(...) ذلك البرنامج الذي شرح في وضوح أنّ غاية الحزب هي السعي إلى تحرير البلاد. وأبان سلوكه في الكفاح وهو العدول عن سياسة المشاركة والمكوث في صفّ المعارضة إلى أن تحظى الأمّة برغائبها التي أهمّها وأجدرها(...) التحصيل على مجلس تشريعي تونسي لسنّ القوانين والأنظمة في البلاد(...)" غير أنّ ما يمكن ملاحظته أنّ التوجّه الذي توخّاه الحزب الحرّ الدستوري الجديد هو الفصل بين الاستراتيجية التي تنشد تحقيق التحرّر والتكتيك أو الخطط السياسية التي تتفاعل مع ميزان القوى وقابلية الخصم أي الدولة الاستعمارية للحوار أو تقديم تنازلات. ومن ثمّ تجسّمت فكرة " تحرّر الشعب التونسي على مراحل".
وقد تخلّل الجدل هذه المراحل وتمحور حول طبيعة النضال من أجل إصلاحات في إطار الحماية والرّجوع إلى التطبيق الحَرْفِي والسليم للمعاهدات من جهة والعمل على إرغام الدولة الاستعمارية وإخضاعها للتحاور مع قادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد الذي سعى إلى التفرّد بدور " المحاور المقبول أو المرضي" (L'interlocuteur valable) من جهة أخرى.
وليس بغريب أن يحتدّ هذا الجدل في فترات الحوار أي سنوات 1936-1937 و1950-1951 ويؤول إلى تصدّع داخلي في صلب جهاز الحزب في خضمّ الخلاف اليوسفي-البورقيبي (1954-1956) ذلك أنّ تناقضات كلّ حركة تحريرية تطفو وتتصادم في المرحلة الأخيرة المؤسّسة للتفاوض مع الدولة الاستعمارية.
وفي هذا الإطار بالذات، يمكن القول بأنّ قادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد تمسّكوا دوما ب " منح الأمّة التونسية ضمانات دستورية تحفظ لها حقوقها في كلّ ما يتعلّق بالمالية والتشريع"57، واعتبروا ذلك عاملا أساسيا في إثبات سيادة التونسيين واختلفوا بين تيّار راديكالي وآخر معتدل في تهيؤ الشعب التونسي أو عدمه للمطالبة بالاستقلال (مؤتمر نهج التريبونال) وبين شق يدعو إلى مواصلة المقاومة إلى حدّ الظفر بالاستقلال التام وآخر ينادي بقبول الاستقلال الداخلي كمرحلة تقود إلى الاستقلال التام (مؤتمر صفاقس). وفي هذا السّياق، يمكن مساءلة اللوائح التي صادق عليها النوّاب في مؤتمرات نهج التريبونال (1937) وليلة القدر (1946) وصفاقس (1955) علما أنّ مؤتمر ليلة القدر جمع بالإضافة إلى قيادة الحزب الحرّ الدستوري التونسي الجديد مكوّنات الحركة الوطنية بكامل توجّهاتها: اللجنة التنفيذية والحركة المنصفية والحركة الزيتونية.
إنّ تأثيرات الأزمة العامة التي شهدتها الإيالة التونسية طوال الثلاثينات من القرن الماضي على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديموغرافية كانت بمثابة الرجّة التي زعزعت أركان الحضور الاستعماري. ولم تكن مسألة المطالبة بالاستقلال وإدراجه في برنامج الحزب مقتصرة على الحركة الوطنية التونسية بل شملت الحركة الوطنية الجزائرية عن طريق تأسيس حزب الشعب الجزائري (سنة 1937) والحركة الوطنية المغربية (عن طريق تأسيس حزب الاستقلال (سنة 1944)58. وإذا ما تمعنّا في الظرف العام الذي انعقد فيه مؤتمر نهج التريبونال، يتيسّر ملاحظة إجماع المصادر المتوفّرة على أنّ الرّغبة في إدراج كلمة "استقلال" (indépendance) في برنامج الحزب عوضا عن "تحرير" (libération ou émancipation) كان منطلقها قاعديا أي صرّح بها مجموعة من المؤتمرين وخاصة أعضاء اللجنة السياسية برئاسة الحكيم سالم الشاذلي (1896-1954) والمقرّر العام الحبيب بوقطفة (1906- 1943)59. ولئن اتفقت مذكّرات محمود الماطري ويوسف الرويسي وسليمان بن سليمان وإبراهيم عبد الله - وكانوا جلّهم من المؤتمرين- على تبيان الحماس الذي ساد أشغال المؤتمر، فإنها تختلف في تحليل النتائج.
برز في المؤتمر تيّاران: تيّار متطرّف وآخر يميل إلى الاعتدال في القرارات. وكان الأوّل يمثّله الحبيب بوقطفة ويوسف الرويسي والمنجي سليم وعلي البلهوان والباهي الأدغم وصالح بن يوسف والهادي نويرة ومفتاح فرحات... أمّا الثاني فكان الدكتور محمود الماطري والبحري قيقة والطاهر صفر وبو صفّارة والعجيمي من أبرز ممثليه. وكان أعضاء اللجنة السياسية قد " أسهبوا في بسط الحالة السياسية وما تستدعيه من المواقف وأمعنوا النظر في برنامج الحزب".
ولم يتيسّر لأعضاء اللجنة الخمسين التصويت على اللائحة التي قدّمها الكاتب العام للحزب الحبيب بورقيبة إلاّ مع طلوع فجر يوم غرّة نوفمبر 1937 (الساعة الثالثة والنصف صباحا). إذ صوّتت الأغلبية لفائدة إبقاء البرنامج على حاله وإقرار بنوده دون تحوير. وكان لخطاب الكاتب العام الحبيب بورقيبة الوقع المؤثر على أعضاء اللجنة السياسية حيث ذكر بالخصوص ما يلي: "لقد رأيت كدستوري لا كعضو بالديوان السياسي أن أجمع حوصلة آراء مختلفة ولكنّها ذات قيمة. وبعد أن درسناها وضعنا من مجموعها لائحة حرّرناها لكم لتسهيل مأموريتكم فقط إذ لكم الحقّ في تنقيحها أو قبولها أو رفضها (...).
(...) لاشكّ أننا متفقون في الغاية هي الاستقلال وإنّنا لم نحجم لا من التعبير عليها لدى المسؤولين من رجال حكومة فرنسا ولا من إذاعة تلك المحادثة التي بسطت فيها مسألة استقلال تونس على صفحات الجرائد. فالخلاف باللجنة السياسية انحصر في هل تبقى كلمة " التحرير" بالبرنامج الأساسي أم تعوّض " بالاستقلال". وأنا شخصيا أرى عدم التغيير لأنّ وضعنا في برنامجنا الأساسي كلمة " التحرير" لا يمنعنا من الطموح إلى الاستقلال طبعا. فكّروا يا سادة هل نحن مستعدّون الاستعداد الكامل لنُجابه عواصف ربّما تكون أشدّ العواصف التي مرّت بنا في كفاحنا الماضي القصير الأمد.
"إنّني لا أمتنع من تقرير كلّ تعبير مهما كانت صيغته من التطرّف ولكن هل هذه النفسية موجودة في الأحرار الذين وراءكم والذين أنابوكم للتكلّم باسمهم؟ وإذا فصلتنا عنكم الزوابع فهل تضمنون استمرار إدارة دواليب الحزب؟ وهل تضمنون استمرار الكفاح الشديد الذي أنتم بصدده في ذلك الحين؟ إذا كان كلّ هذا محقّق فنحن على استعداد حتى إلى الموت؟ (تصفيق حاد). إذن فكّروا بعقولكم وراجعوا نفوسكم هل لها جلد لتسير إلى النهاية. فتمعنوا وتثبتوا فإنكم مسؤولون أمام الله والواجب ومصلحة الأمّة التي أوفدتكم لتمثلوها في هذا المؤتمر. أنا أوّل من يعتقد في ضرورة الاستقلال ولهذه العقيدة لم أجازف بمطالبته أوّل الأمر ورحت أكوّن له الأسس الصالحة للبناء وأستعدّ له وأعتقد أنّي هيّأت له بعض التهيؤ ولازلت مستمرّا في البناء أقول لازلت لأنّ ثلث الشعب الدستورية لازالت بعيدة عن مستوى شقيقاتها(...)"60.
لم تكن مسألة إدراج مطلب الاستقلال في البرنامج الأساسي للحزب وتعويضها بكلمة " التحرير" النقطة الوحيدة التي أثارت جدلا ونقاشا حثيثا بين المؤتمرين بل طرحت مسائل أخرى تنظيمية (تسديد الشغور الحاصل في الديوان السياسي نتيجة لتخلّي أمين المال محمّد بورقيبة عن مسؤولياته، إحداث خطّة جديدة داخل الديوان السياسي أطلق عليها اسم "ناظر"، تنظيم مالي جديد وقرارات سياسية علنية وأخرى سرّية لمجابهة الوضع الاستعماري)61. غير أنّ الطريقة التي سلكها الكاتب العام الحبيب بورقيبة للسيطرة على الصبغة الحماسية التي سادت أشغال المؤتمر، تنمّ عن قراءة واقعية وصائبة للظرف. ولئن عبّر في هذا السياق عن نفس التمشي الذي طرحه الدكتور محمود الماطري من حيث عدم التهيّؤ، فإنه يعارض توجّه سليمان بن سليمان الداعي إلى المطالبة بالاستقلال. وهنا تتجلّى رؤية الكاتب العام الحبيب بورقيبة في استخلاص ما نتج عن تجربة مصالي الحاج عندما أدرج مطلب الاستقلال في برنامج الحزب الذي أسّسه سنة 1937 (حزب الشعب الجزائري) دون تهيئة الشعب الجزائري لذلك من جهة وكذلك الصعوبات التي اعترضت الحزب الحرّ الدستوري الجديد لتكوين جبهة وطنية ضدّ الاستعمار تحت قيادته (رجوع الشيخ عبد العزيز الثعالبي في جويلية 1937 والصراع بين أنصار الديوان السياسي وأنصار اللجنة التنفيذية، فشل تجربة جامعة عموم العملة التونسية وانقسامها إلى جامعتين: جامعة بقيادة الهادي نويرة وأخرى بقيادة بلقاسم القناوي)62.
وعلى أيّة حال، لم يمنع تصويت الأغلبية لفائدة إبقاء برنامج الحزب الأساسي على حاله وعدم تعويض كلمة "التحرير" بمرادف "الاستقلال" الادارة الاستعمارية من شنّ حملة قمعية واسعة النطاق ضدّ مناضلي الحزب الحرّ الدستوري الجديد إثر حوادث 9 أفريل 1938 وآل الوضع إلى حلّ الحزب وحجز وثائقه ومنعه من أيّ نشاط. ويتّضح أنّ العامل الأساسي الذي جعل الكاتب العام الحبيب بورقيبة يخيّر الإبقاء على كلمة " التحرير" يكمن في ربح الوقت، لأنّ القمع آت لا ريب فيه وبدت ملامحه الأولى تظهر إثر سقوط حكومة ليون بلوم الأولى (21 جوان 1937). ويمكن استنتاج أن المطالبة بالاستقلال بقيت في فترة الثلاثينات من القرن الماضي ضمنية في برنامج الحزب الحرّ الدستوري الجديد لاعتبارات استراتيجية وتكتيكية في حين أصبحت علنية لدى أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب إثر مؤتمر قصر هلال وخاصة عودة الشيخ عبد العزيز الثعالبي (جويلية 1937)63 . وبقدر ما سعى الحزب الحرّ الدستوري الجديد إلى تعبئة كافة شرائح المجتمع التونسي وإقحامها في استراتيجيته التحريرية ضمن سياسة المراحل واستكمال التهيؤ لشنّ المعركة الحاسمة، ظلت اللجنة التنفيذية في دائرتها الضيّقة (167 شعبة من بينها 13 بتونس العاصمة والأحواز وشعبة واحدة بباريس) محترزة من استراتيجية العمل المباشر واكتفت بتحرير المقالات والعرائض وإلقاء الخطب64.
غير أنّ التحوّلات التي شهدتها الايالة والدولة الحامية والعالم أثناء الحرب العالمية الثانية وما استوجبته من إعادة ترتيب لميزان القوى على المستوى الدولي ستعطي دفعا جديدا لحقّ الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها والجهر بمطلب الاستقلال. فكيف تطوّرت الحركة الوطنية التونسية وحدّدت موقفها من هذا المطلب؟
ما من شكّ كان لانهزام الدولة الحامية في جوان 1940 وإمضاء معاهدة الصلح مع ألمانيا النازية من جهة وحالة التصدّع الداخلي التي هزّت المجتمع الفرنسي بين موالين لسياسة التعاون مع الاحتلال الألماني التي أقرّها الماريشال بيتان (Pétain) ودعاة المقاومة والصمود الموالين للجنرال ديغول (De Gaulle) من جهة أخرى وقعا ملموسا لدى الوطنيين بصفة عامة والدستوريين بصفة خاصة، إذ أقدم هؤلاء على إبراز عجز الدولة الحامية على حماية نفسها من الاحتلال فكيف يمكن لها الادّعاء بقدرتها على حماية مستعمراتها؟ والحال أنّ موجات الاعتقال والاضطهاد المتواصلة التي شنّتها السلطات الاستعمارية ضدّ القادة الوطنيين والمناضلين لم تضع حدّا لنشاط الحركة الدستورية التي توخّت العمل السرّي (تكوين الدواوين السياسية السرية: الخامس والسادس والسابع طوال الفترة 1939-1941).
يضاف إلى هذا الحدث إرتقاء المنصف باي المتعاطف مع الحركة الدستورية إلى العرش الحسيني (19 جوان 1942) والانتعاشة الوطنية التي شهدتها الايالة طوال حملة تونس (نوفمبر 1942-13 ماي 1943) التي مكّنت الحزب الحر الدستوري الجديد من تجديد تشكيلاته والرّجوع إلى سالف نشاطه. وقد سبق ذلك الإعلان عن ميثاق الأطلنطي (La charte de l'Atlantique) يوم 12 أوت 1941 الذي أعلن مساندته حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. كلّ هذه الأحداث المتداخلة جعلت الرّغبة في الانعتاق تطفو بقوّة وتجعل الحركة الوطنية لا فقط في تونس بل أيضا في الجزائر والمغرب الأقصى تفصح عن مطلب الاستقلال الذي شهد مساندة شعبية عارمة مع تأسيس جامعة الدول العربية وجمعية الأمم المتحدة (1945) إثر انتصار الحلفاء65.
ورفض الوطنيون التونسيون مشروع الاتحاد الفرنسي الذي تبلور إثر انعقاد ندوة " برازفيل" (جانفي 1944) ووجّهوا مذكّرة في الغرض إلى الحكومة الفرنسية (8 مارس 1944) وتكوّنت لجنة وطنية يوم 30 أكتوبر ضمّت 60 عضوا لتدارس الوضع، وقد عُرفت بلجنة الستين التي تشكّلت إثرها "جبهة وطنية" ضمّت كلاّ من الحزبين الدستوريين والحركة المنصفية ومدرّسي جامع الزيتونة وممثلي الأقلية اليهودية. وعقدت اجتماعين، الأوّل يوم 30 أكتوبر 1944 أعدّ تقريرا طالب فيه بمنح البلاد التونسية استقلالها الداخلي، والثاني يوم 13 نوفمبر طالب فيه بإقامة نظام ملكي دستوري66.
وبالتوازي مع هجرة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى القاهرة (مارس 1945) للتعريف بالقضية التونسية ومحاولة إدراجها ضمن جدول أعمال جامعة الدول العربية، سعى الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد بإشراف كاتبه العام صالح بن يوسف إلى تكوين جبهة وطنية مضادة للإستعمار جمعت المنظمات المهنية لا سيما الاتحاد العام التونسي للشغل (جانفي 1946) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (أفريل 1948) والاتحاد العام للفلاحة التونسية (ماي 1950) والشبابية (حركة الشبان المسلمين والاتحاد العام للطلبة بتونس). وتجسيما لتوافق كافة مكوّنات الحركة الوطنية حول إخفاق سياسة الحماية، انعقد مؤتمر ليلة القدر (23 أوت 1946) ورفع لأوّل مرّة شعار الاستقلال التام حيث ورد في خاتمة ميثاقه: "(...) لهذا كلّه فإنّ المؤتمر الوطني التونسي يعلن: إنّ نظام الحماية نظام سياسي لا يتّفق مطلقا مع سيادة الشعب التونسي ومصالحه الحيوية، وأن هذا النظام استعماري قضى على نفسه أمام العالم بالاخفاق، بعد تجربة خمس وستين سنة، كما يعلن عزم الشعب الثابت على استرجاع استقلاله التامّ، والانضمام - كدولة ذات سيادة - إلى جامعة الدول العربية، وهيئة الأمم المتحدة، والمشاركة في مؤتمر الصّلح"67.
هذه المطالبة الآنية بالاستقلال الصادرة من مختلف مكوّنات الحركة الوطنية تطرح عدّة تساؤلات منها:
1 - هل تعكس توافقا مع وجهة نظر الزعيم الحبيب بورقيبة التي صرّح بها في خطابه أمام أعضاء اللجنة السياسية أثناء أشغال مؤتمر نهج التريبونال سنة 1937 والتي تربط مسألة إدراج مطلب الاستقلال في برنامج الحزب بتهيّؤ الشعب التونسي وإعداد التشكيلات الحزبية لذلك؟ وبصفة أدقّ، الإقرار أنّ الوقت قد حان للمعركة الحاسمة؟
2 - أم هو مجرّد موقف ظرفي اتّخذ في ظلّ السياسة القمعية التي انتهجها المقيم العام الجنرال ماست (1944-1946) والذي عبّر مرارا عن معارضته لأيّ نشاط وطني وغلق الباب أمام أيّة مبادرة تحرّرية تمكّن الحزب الحر الدستوري الجديد المنحلّ من الرجوع إلى سالف نشاطه. وممّا يؤكّد حصافة هذا الإحتمال، أن قرار عقد مؤتمر ليلة القدر اتخذ والزعيم الحبيب بورقيبة في المهجر أي أنّ الدواعي لانعقاده كانت داخلية بالدرجة الأولى.
وفي هذا السياق، لم يتردّد الحزب الحرّ الدستوري الجديد عن طريق أمينه العام صالح بن يوسف من تعديل موقفه من مطلب الاستقلال إثر تعيين الاشتراكي التحرّري جون مونص (Jean Mons) مقيما عاما جديدا في مطلع سنة 1947،68 . وقد أفردت جريدة " تونس الاشتراكية" (Tunis Socialiste) لسان الفيدرالية الاشتراكية بتونس مقاليْن في الغرض: الأوّل خصّص لتغطية الندوة الصحفية التي عقدها الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد صالح بن يوسف في (20 أوت 1947) والذي ذكر فيها بالخصوص ما يلي: "(...) عندما نطالب بالاستقلال، هذا لا يعني أنّ الفرنسيين يجب أن يزولوا من تونس بين عشية وضحاها. إنّ الاستقلال غاية مُثلى نتوق إليها إمّا بتوخّي العنف أو الحوار السلمي. إنّ مذهب الحزب الحر الدستوري الجديد يعادي العنف. في تقديرنا، يمكن الوصول إلى الاستقلال بالتعاون مع الجمهورية الفرنسية. هنالك استقلال واستقلال. بالنسبة للحزب الدستوري، الاستقلال نتحصّل عليه بعد اجتياز الشعب التونسي سلسلة من المراحل. حينذاك نصل إلى نظام مشاركة لشعوب حرّة. وهو الهدف الذي ندعو إليه الشعب الفرنسي (...)"69.
أمّا المقال الثاني فقد خصّصه محرّره الحكيم إيلي كوهن حضرية الكاتب العام للفيدرالية الاشتراكية بتونس للتنويه بالرّصانة والاعتدال اللّذين ميّزا موقف الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد أثناء ندوته الصحفية ذاكرا بالخصوص "أنّ صالح بن يوسف يعدّ من أبهى نجاحات فرنسا بتونس" وأنّ الخلاف بين الاشتراكيين والوطنيين حول تشكيل حكومة مصطفى الكعّاك (جويلية 1947) وما صاحبها من إصلاحات " منقوصة" والمراحل التي يجب على الشعب التونسي إجتيازها حتى يظفر بالاستقلال، كلّ هذه النقاط هي قابلة للحوار ومدعاة لتقريب وجهات النظر70.
ولم ينحصر ترحيب الاشتراكيين في مبادرة صالح بن يوسف بل شمل أيضا موقف صالح فرحات الكاتب العام للّجنة التنفيذية (الحزب الدستوري القديم) إذ حوصل سارج معاطي (Serge Moati) عضو المكتب الفيدرالي للاشتراكيين بتونس رغبات الرأي العام الوطني الذي يشمل الدستوريْن الجديد والقديم والمستقلّين وفي مقدّمتهم محمّد شنيق وعزيز الجلّولي والدكتور محمود الماطري، مبيّنا أن " من خلال المواقف التي تمّ تأكيدها، يمكن استجلاء توجّهات عامّة وجب أخذها بعين الاعتبار عند دراسة المشكلة الفرنسية-التونسية، وهذه التوجّهات العامة تحتدّ أو تلين حسب شخصية الناطق باسمها أو انتهازيته السياسية وهي:
- استقلال تونس وإلغاء معاهدات الحماية.
- إعادة تنصيب المنصف باي على العرش الحسيني.
- إقامة نظام ليبرالي بتونس يمكّن التونسيين من إقتراع دستور ديمقراطي.
- إعادة النظر في العلاقات التونسية-الفرنسية على أساس الصداقة والثقة بين الطرفين.
- الادارة المباشرة للشؤون الداخلية للايالة دون ترقّب إمضاء معاهدات جديدة بين الحكومة (التونسية) والجمهورية (الفرنسية)"71.
وعلى أيّة حال يمكن استخلاص أنّ هنالك إجماع حول هدف الحركة الوطنية والمتمثّل في تحرير الشعب التونسي وظفره بالاستقلال وأنّ الخلاف يكمن في الطريقة التي يجب اتّباعها: بصفة مرحلية وإلزام الادارة الاستعمارية على قبول التحاور مع قيادة الحركة الوطنية عن طريق الضغط الشعبي والدولي أم الإعلان عن مطلب الاستقلال بصفة آنية والدخول في صراع غير متكافئ مع السلطة الاستعمارية. ومن ثمّ كان التوافق شاملا بين تصريح الأمين العام للحزب الحرّ الدستوري الجديد صالح بن يوسف أثناء ندوته الصحفية (20 أوت 1947) وبرنامج النقاط السّبع الذي طرحه الزعيم الحبيب بورقيبة يوم 14 أفريل 1950 بباريس إثر عودته من المهجر يوم 8 سبتمبر 1949، 72. فقد أكّد رئيس الحزب مرّة أخرى أنّ المطالبة بالحكم الذاتي - عن طريق بعث السلطة التنفيذية التونسية المؤتمنة على السيادة التونسية وتشكيل حكومة تونسية صرفة مسؤولة عن الأمن العام يرأسها وزير أكبر يتولّى رئاسة مجلس الوزراء بصورة فعلية وبعث مجلس وطني منتخب بالاقتراع العام تكون أولى مهامه إعداد دستور ديمقراطي يضبط العلاقات بين تونس وفرنسا على أساس احترام السيادة التونسية ومصالح فرنسا المشروعة- هي مرحلة في الطريق بالظفر بالاستقلال. وكان قد نبّه الصحافة الفرنسية في تصريح له إلى خطورة المرحلة ودقتها: "حذار، إنّ زمجرة الغضب بدأت تصعد. فقد بلغ استياء التونسيين حدّ السّخط. وإذا ما تواصل الرّفض الفرنسي لهذه الإصلاحات الضرورية والعاجلة (...)، فإنّ ردّنا سيكون بشنّ أعمال شغب (...)"73.
وهكذا يتّضح أنّ الحزب الحرّ الدستوري التونسي الجديد ركّز عمله في الفترة المتراوحة بين 1948 و1952 على مواصلة مساعيه لتدويل القضية التونسية وكسب أنصار في صفّ القوى التحرّرية والمناهضة للإستعمار مع المراهنة على التحالف مع المعسكر الغربي في إطار الحرب الباردة وذلك عن طريق توظيف ورقة الضغط الأمريكي على السياسة الاستعمارية الفرنسية وفي نفس الوقت مواصلة التعبئة الداخلية وذلك بتمتين أركان الجبهة الوطنية المناهضة للاستعمار (نذكر منها بالخصوص مبادرة تشكيل " لجنة العمل من أجل الضمانات الدستورية والتمثيل الشعبي" يوم 12 ماي 1951) وإعداد التشكيلات الحزبية (الشُعَب والجامعات الدستورية) لما ستؤول إليه نتائج حكومة محمّد شنيق التفاوضية74 . واقتصر طلبه طوال هذه الفترة على الاستقلال الداخلي الذي طرحه منذ سنة 1944 والذي لم تجسّمه الوعود الفرنسية المتكرّرة75. وما إن فشلت الحكومة التفاوضية في إلزام السلطة الفرنسية بإيفاء وعدها المتمثّل في إنجاز الإصلاحات المرجوّة تحقيقا للاستقلال الداخلي المنشود، كان ردّ الحزب الحرّ الدستوري الجديد وكافة مكوّنات الحركة الوطنية بأنّ الوقت قد حان لخوض المعركة الحاسمة.
فقد أثارت مذكّرة 15 ديسمبر 1951 التي أعلنت تمسّكها بمبدإ السيادة المزدوجة وأنّ " الرّابطة بين تونس وفرنسا أبدية" استياء الزعيم الحبيب بورقيبة ومناضلي الحزب الحرّ الدستوري الجديد. وأكّدت اللاّئحة المصادق عليها بالإجماع أثناء عقد المؤتمر الرابع للحزب الحرّ الدستوري الجديد (18 جانفي 1952) على حقّ تونس في تقرير مصيرها ذاكرة ما يلي: "(...) ويؤكّد المؤتمر أنّه لا يمكن التعاون المثمر بين البلديْن (تونس وفرنسا) في الميادين الثقافية والاقتصادية والدّفاع إلاّ بانتهاء الحماية واستقلال البلاد التونسية وإبرام معاهدة ودّ وتحالف على قدم المساواة (...)". وبناء على هذا الموقف، ما هي العوامل التي جعلت الديوان السياسي بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة يختلف مع الأمين العام صالح بن يوسف في تقييم طبيعة المفاوضات الفرنسية-التونسية إثر العرض الذي طرحه رئيس الحكومة الفرنسية الراديكالي بيار منداس فرانس في خطابه أمام الباي يوم 31 جويلية 1954 وفي النتائج التي أسفرت عليها هذه المفاوضات بإمضاء الاتفاقيات الفرنسية التونسية يوم 3 جوان 1955.
إنّ الإجابة عن هذا السؤال يستوجب إحاطة دقيقة بالتطوّرات التي التي شهدتها الساحة التونسية والفرنسية والدولية خلال الثلاث السنوات الفاصلة بين مؤتمر نهج قرمطو (أو سيدي محرز) الذي انعقد سرّا يوم 18 جانفي 1952 ومؤتمر صفاقس الذي انعقد بصورة علنية وشرعية بين 15 و19 نوفمبر 1955،76 . وكذلك الكشف عن البعد التنافسي في صلب القيادة ومدى تأثيره على وحدة الصفّ وسير المفاوضات علما أنّ ما جدّ في مؤتمر دار سليم يوم 17 أكتوبر 1948 والمجلس الملّي يوم 3 أوت 1949 والمجلس الملّي يوم 4 أوت 1950 وضّح انعدام الثقة بين أنصار الزعيمين (الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف)77. وبصفة أدق تباينا في خصوص التحالف مع البلاط حيث تؤكّد النشرية السرية الخاصة التي أعدّتها مصلحة الاستعلامات الفرنسية إثر عودة الزعيم الحبيب بورقيبة، رئيس الحزب الحرّ الدستوري الجديد من القاهرة يوم 8 سبتمبر 1949 ما يلي: "(#0236) ردود فعل حاشية الباي: يبدو أنّ رجوع "المجاهد الأكبر" سيضايق حاشية الباي وبصفة خاصة الباي نفسه، إذ أصبح يخشى فقدان تيّار الشعبية -الذي اختلقه منذ وفاة منصف باي- لصالح الزعيم. وعلى عكس صالح بن يوسف الذي لا يملك هذا الادّعاء، فإنّ الحبيب بورقيبة السجين السابق ببرج البوف وحصن سان نيكولا قد يصبح في نظر الجماهير " ممثّل الشعب التونسي" والرمز الوحيد للوطنية في الايالة. إنّ العلاقات الطيبة القائمة بين صالح بن يوسف والأمير الشاذلي قد تتلاشى مع عودة هذا المعكّر صفو الفرح. ألم يتباهى بورقيبة دائما بأفكاره المساندة للنظام الجمهوري؟ وهل يمكن للباي لمين نسيان تهجّم الزعيم ضدّه عدّة مرّات مؤكّدا بأبّهة أنه لا يعترف إلاّ بمنصف باي ملكا شرعيا؟"78.
إنّ المسألة معقّدة ودقيقة تتجاذبها تأثيرات المقاومة الوطنية في المدن والجبال التي اندلعت سنة 1952 وتذبذب السياسة الفرنسية اتجاه حركة تحرير الشعوب في المستعمرات من جهة وانعكاسات تطوّرات الوضع في صلب الحركتين الوطنيتين الجزائرية والمغربية وانزلاق الدولة الاستعمارية الفرنسية في حربها ضدّ الحركة التحريرية بالفيتنام أوّلا وما جدّ من تغيير في الشرق الأوسط بعد إنشاء دولة إسرائيل سنة 1948 وإلغاء للنظام الملكي بمصر (ثورة 22 يوليو 1952) ثانيا من جهة أخرى79. وليس من قبيل الصّدفة أن يعتبر مؤرّخو فترة تصفية الاستعمار بأنّ عجلة التاريخ شهدت نسقا سريعا طوال خمسينات القرن الماضي وبصفة أدق في منتصفها نتيجة تشابك الأحداث وتناسقها. وقد حاولنا قبل اقتحام مجال التأويلات للأحداث التاريخية أن نرصد المصادر الأساسية المتعلّقة بمبحثنا وأن نتفحّصها برويّة80. وقد سبق لهذا المبحث أن تناولته مقاربات مصطفى كريّم ومحمّد الوالدي وعلية عميرة الصغير بمسح أوّلي81. ولا ندّعي أنّنا سنحسم المسألة بل هدفنا يقتصر على تعديل بعض ما ورد من ملاحظات واستنتاجات وإثرائها في ضوء مقاربتنا التأليفية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.