استطرف الكثيرون الفكرة التي جادت بها قريحة الرئيس الفينزويليّ هوغو شافيز يوم الأربعاء 21 أكتوبر 2009، حين لاحظ أنّ انقطاع الكهرباء ناتج عن نقص مياه السدود التي تُوفّر الطاقة الكهربائيّة. فدعا مواطنيه إلى الاستحمام لمدّة ثلاث دقائق فحسب اقتصادًا للطاقة وتوفيرًا للمياه وعلاجًا لمشكلة انقطاع الكهرباء. ناصحًا الجميع بالامتناع عن الغناء أثناء الاستحمام، لأنّ من شأن الغناء أن يجعلهم ينسون أنفسهم تحت الدشّ ويهدرون الثروة المائيّة. طبعًا لم يفوّت أعداء شافيز الفرصة، فسخروا من هذه الطرفة الشافيزيّة جديدة، واعتبروها جزءًا من إستراتيجيّة الرجل الإعلاميّة. ونوّه البعض بظهور «أدواش الثلاث دقائق» على غرار «فنادق الثلاث نجوم». بينما نصحه البعض الآخر بالذهاب فورًا إلى إحدى مؤسّسات حقوق التأليف العالميّة، لتسجيل براءة اختراع دشّ جديد يُضاف إلى قائمة الأدواش المعهودة. فبعد ««الدشّ الإسكوتلنديّ» و«الدشّ البارد» ها هو العالم يعيش لحظة اختراع «الدشّ الشيوعيّ أو الإشتراكيّ». لم يكن هذا كلّه ليجلب الانتباه لولا ملاحظةُ غياب بُعْدٍ مهمّ، فات المعلّقين وقد يكون فات شافيز نفسه. وهو البُعْدُ الذي لا يتجلّى للعيان إلاّ حين ننظر إلى المسألة ككلّ من زاوية الرغبة المحمومة في «إسكات المُغنّي». سبق أفلاطون الجميع إلى إسكات نوع من المغنّين باسم الاقتصاد الأخلاقيّ ودفاعًا عن المدينة الفاضلة. ثمّ توارثت المُدُنُ هذه السنّة غير الحميدة باسم الاقتصاد السياسيّ. حتى رأينا في أيّامنا هذه مغنّي الراب في أمريكا وأوروبّا يصبح موضوع جدل الحكومات والبرلمانات بهدف إسكاته وتطهير المجتمع من مروقه وهرطقته واعتدائه على السنن الحميدة. أمّا في البلاد العربيّة فإسكاتُ المغنّي «فنّ» قائم بذاته، حيث طورد الكثير من المغنّين الجادّين وسُجنوا وجُوِّعُوا وهُمّشوا. وانسحب الغناء الحقيقيّ في معظمه، وحلّ محلّه باسم الترفيه نوع من الضجيج الراقص الأبكم المنتج للغباء والحيوانيّة، وهو من ثمّ أكبر وأخطر أنواع «الإسكات». وقد سار العرب الجدد في هذا الأمر على خطى القدامى الذين أسكتوا مغنّين كُثرًا لأسباب سُلطانيّة عن طريق ضرب أعناقهم وقطع ألسنتهم والتنكيل بهم. أو لأسباب جماليّة لخّصها أحد الشعراء في قوله: وقال اقترح بعض ما تشتهي/ فقلتُ اقترحت عليك السكوتا. كما عبّر عنها شاعر آخر بقوله: غناؤك والشتم عندي سواءُ/ وصمتكَ من كلّ داءٍ دواءُ/ فإن شئتَ غنّ فأنتَ السقامُ/وإن شئتَ فاسكتْ فأنتَ الشفاءُ. والحقّ أنّنا لو نظرنا إلى المسألة من زاوية الإستعارة والرمز، لبدا لنا كلٌّ يغنيّ على ليلاه، وكلّ يريد إسكات المغنّي لسبب خاصّ به. شافيز يريد إسكات المواطنين اقتصادًا في الاستهلاك والساخرون منه يريدون إسكاته تشجيعًا على الاستهلاك. وقد يستسيغ آخرون اللعبة لداوعٍ اقتصاديّة وسياسيّة وجماليّة وأخلاقيّة، فيسألون لماذا يتمّ البحث دائمًا عن إسكات البلابل والشحارير والغلابى والبُسطاء وقليلي الحيلة، دون أن يحاول أحدٌ إسكات «مغنّين»» بوم أو غربان في رداءة نتنياهو وليبرمان ومادوف وغيرهم، ممّن يثخنوا هذه الأرض رداءةً وجورًا وطغيانًا وعربدة؟ إلاّ أنّ إسكات المغنّين فاشلٌ أبدًا لسببين: ونتحدّث هنا عن المغنّين الحقيقيّين. السبب الأوّل: أنّ الأغنية طائر حرّ يحلّق في السماء ويعيش بين الناس. لا يحترم الأضواء الحمراء ولا يذعن لحرس الحدود ولا يخضع لتأشيرة ولا يتورّع عن التسكّع في شوارع الممنوع ولا تنفع معه القضبان والكمّامات. والسبب الثاني: أنّ الانخراط في مثل هذا الأمر ولو عن حسن نيّة أو باسم المصلحة العامّة، هو في النهاية استسلام للجانب القاتم في هذه المرحلة العالميّة، التي استبدلت الشعار القائل «لا تقل للمغنّي غنّ بل قل له آه»، بالشعار القائل: «لا تقل للمغنّي غنِّ بل قل له اُسكُتْ. » فليتَ صاحب الفكرة أعلاه يسأل معنا: أيّهما أخطر في النهاية: انقطاع الكهرباء أم انقطاع الغناء؟