لاشكّ أنّ الفرق كبير بين صوت السيّدة أمّ كلثوم وصوت السيّدة هيلاري كلينتون، وعلى الرغم من ذلك فقد أبت الذاكرة الماكرة إلاّ أن تعود بي إلى الأولى ما أن سمعتُ الثانية تتحدّث عن الصبر وحدوده. «ما تصبّرنيش بوعود / وكلام معسول وعهود / أنا يا ما صبرت زمان / على نار وعذاب وهوان / واهي غلطة ومش حتعود / ..إنّما للصبر حدود.. » هكذا كتب عبد الوهاب محمد ولحّن محمد الموجي وغنّت أمّ كلثوم قبل أكثر من خمسين سنة. ولا أظنّ أحدًا منهم تخيّل أن تصبح هذه الأغنية جزءًا من خطاب الديبلوماسيّة العالميّة الرائج هذه الأيّام، فإذا نحن نستمع إليها مُترجمةً إلى اللغة الفرنسيّة على طريقة السيّد كوشنير، ثمّ مُترجمةً إلى اللغة الإنقليزيّة على طريقة السيّد براون، ثمّ منقولةً إلى اللسان الأمريكيّ على طريقة السيّدة هيلاري كلينتون وهي تغتنم فرصة مرورها بالقدس واجتماعها برئيس حكومة إسرائيل اليمينيّة وبوزير خارجيّتها المتطرّف، لتصدع بأنّ «لصبر الغرب حدودًا». هكذا إذنْ. ها نحن نكتشف ثروةً أخرى مهدّدةً بالنفاد قبل النفط والماء: ثروة الصبر. أي نعم. ذلك الصبر الذي تتلمذنا فيه مباشرةً على نوح وأيّوب وإبراهيم وسائر ذوي العزم. ذلك الصبر الذي ظننّاه متجدّدًا أبدًا ولم يبق لنا غيره وبتنا متشبّثين به تشبّث الغريق بقشّة. ها هم يقولون لنا إنّه ينفد. ومن يقول ذلك؟ نحن أو من لفّ لفّنا من مدمني الصبر؟ كلاّ. فهو ثروتنا الوحيدة، ولولا الحياء لنظرنا في إمكانيّة تعليبه وتصديره أو بيعه أيّام البقرات العجاف وما أكثرها كي نصبح ميليارديرات. كلاّ. لم ينفد صبرنا نحن، بل نفد صبر الفرنسيّين والإنقليز والغرب عمومًا. ولم ينقصنا إلاّ أن تُضافَ السيدة كلينتون إلى قائمة نافدي الصبر كي ينفد صبرنا حقًّا. ولعلّنا كنّا نفهم أن ينفد صبر السيّدة كلينتون لو أنّها عراقيّة أو أفغانيّة أو لبنانيّة أو سودانيّة أو راونديّة أو كونغوليّة أو فلسطينيّة، ولو أنّها تحمل جنسيّةً من تلك التي يحملها مليار أفريقيّ وإفريقيّة ومئات الملايين من سائر مستضعفي قارّات العالم الذين يقبعون في سجون الفقر والمرض والأميّة والاستبداد، بينما ثرواتهم تُنهب وحقوقهم تُسلب. ولعلّنا كنّا نفهم أن ينفد صبر الغرب عمومًا لو أنّه على صلةٍ بما ذهب إليه شاعرنا العتيق زهير بن أبي سلمى حين لخّص مبرّرات نفاد الصبر فقال: «ثلاثٌ يعزّ الصبْرُ عند حُلولِهَا/ ويذْهلُ عنها عقْلُ كلِّ لَبِيبِ / خروجُ اضطرارٍ من بلادٍ نُحبُّها / وفُرقةُ إخوانٍ وفقْدُ حَبِيبِ. » ولكن ما أدرى هؤلاء بالصبر وهم لا يرونه إلاّ نقيضًا للجزع وإحدى ألعاب الورق، بينما هو في لغتنا حمّال أَوْجُه لا تُحصى، من بينها الجراءةُ والكفالةُ وناحيةُ الشيء وحرفُهُ وعدمُ معاجلة العُصاة بالانتقام، ومن بينها خاصّةً: الحبسُ والإكراه. أمّا في الحياة فقد أشبعناه تصريفًا وادّعينا فيه فلسفة وأصبحنا آباءه وأمّهاته ومخترعيه، حتى صرنا محترفي صبر بل وخيميائيّي صبر، وكأنّنا عثرنا على حجر الفلسفة الذي يحوّل النحاس إلى ذهب فاغتنمناه لتحويل كلّ شيء إلى صبر. ننهزم فنصبر ونجوع فنصبر وتُسرَقُ أحلامنا فنصبر وتُلجَمُ أفواهنا فنصبر ونُخدَعُ فنصبر ونُلْدغُ من نفس الجحور مليون مرّة فنصبر. حتى لكأنّ العالم يستهلك الصبر في عُلَبِ المصبّرات بينما نستهلكه نحن طازجًا من المنتج إلى المستهلك. في المكان نفسه، يوم السبت 30 أكتوبر 2009، قالت وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة «إنّ تجميد الاستيطان ليس شرطًا لاستئناف المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطينيّ». قالت ذلك على مرأى ومسمع من الفلسطينيّين، المُطالَبينَ على النقيض من محتلّيهم بالاستجابة إلى حزمة من الشروط المُسبقة: أن يوقفوا المقاومة (بل أن يخوّنوها) وأن يعترفوا بإسرائيل كدولة يهوديّة (بل أن يقدّسوها) وأن يفرّطوا في كلّ حقوقهم المشروعة (بل أن يُحرّموها). وعلى الرغم من كلّ هذا الدمار الأزرق ينفد صبر العالم أجمع ولا يبدو أنّ صبرنا ينفد. حتى لكأنّنا نغترف الصبر من البحر، أو أنّنا لم نعد نملك حتى الحقّ في نفاد الصبر. ماذا بقي بعد ذلك؟ لم يبق إلاّ أن نطلب لأنفسنا الشفاء من هذا الصبر المخادع المخدوع. قائلين بصبْرٍ واحد، ومن المحيط إلى الخليج: ليت صبْرَنا ينفد.