المسرح: هذا الفن العريق والعميق، فن الحركة واللغة والجسد، فن التعالق مع الذات وبالذات ومع الآخر وبالآخر، فن المدينة، والتلاحم والتغريب والقسوة والضحك المرّ الأسود. فن السحر والرقص و«صخب الصمت». هذا الفن الدخيل علينا في ظاهر مشهد التاريخ، المتسلل الى سلوكنا الجمعي والى ملاحمنا القديمة والى قصصنا العريقة، لعلك تلقاه في المنافرة أو المناحة أو الاحتفال بعاشوراء. لعلك ترى ظلاله القادمة في حكايا الرواة يتحلق بهم الجمهور في الأسواق الشعبية. لعلك تكشف بعض ملامحه في سكنات الناس وملامحهم وفي أصوات المنادي في الأسواق ينادي وفي حركة الخطيب وهو يخطب ودّ الآخرين... في كل أنظمة المخاطبة والمشافهة والكتابة. حتى أكاد أقول: إن المسرح هو الحياة. هو المونولوج اليومي الذي نجريه مع أنفسنا. وهو الحوار الدائم الذي لا ينقطع بين الانسان والعالم. لذا اكتسب المسرح قيمة عليا في الثقافة والمعرفة والمجتمع. ومثلما وسمت الفلاسفة بأم المعارف وسم المسرح بأبي الفنون لأنه جامعها، والمؤلف بينها. والعاكس لتحوّلاتها... إن المسرح لم يكن في أي مرحلة من مراحله إلا انعكاسا لطبائع العصر وهوية الثقافات في تنوّعها وثبات جذرها الانساني. على هذا الأساس فإن المسرح اليوم عالميا وعربيا وتونسيا يواجه أسئلة خطيرة ومتشابكة في ضوء المتغيرات الثقافية الجديدة وانساق العولمة. هل يمكن القول إن المسرح بدأ يفقد هويته الخاصة به ويكتسب بعض الوظائف التي هي ليست من جوهره؟ أليس المسرح هذا الفن العظيم بما هو علامة ناظمة للتاريخ والثقافة والمجتمع «يبقى الأكثر قدرة للاحتفال والتجمع واللقاء. فمنذ كان ظاهرة تلقائية وغريزة الى أن تحول الى صناعة وإبداع ورؤية وهو يريد فهم العالم والانسان وأسرار العلاقات، أما اليوم فالضرورة تدعو الى التعرف الى ما تبقى من هذا المسرح في المسرح وفي العالم، بوصف المسرح معطى حضاريا في حاجة الى هوية جديدة والى أسئلة جديدة» (عبد الرحمان ابن زيدان). إن سؤال الهوية يشمل كل مكوّنات: أشكاله التراثية الانسانية ونوع خطابه وأساليب تجسيده وناء فضاءاته. وهو يشمل المتلقي في صيغة الجمع الذي هو اليوم موضوع في مهبّ النظريات التجريبية والخبرات الجديدة. أيّ مسرح نريد اليوم، في ظل مسخ الهويات أو السعي الى تثبيتها تثبيتا أيديولوجيا مرضيا؟؟ كيف نعيد للمسرح ألقه، بعيدا عن التهويمات وبلاغة المدينة الفاضلة؟ كيف يمكن أن يتصالح الكائن الموجود مع جوهر وجوده، مع ذاكرته الحيّة، أي مع المسرح بما هو فعل تنقيب عن البواطن ووعي بالظاهر المختلف؟ كيف يصير المسرح جزءا من ثقافتنا وبرامجنا التعليمية؟ كيف يمكن للمسرح أن يفجّر رغباتنا الحقيقية وأسئلتنا البسيطة والمعقدة وأن يلقي بنا في جوهر وجودنا الحيّ النابض، الغامض والواضح في آن، كيف نكون جزءا من لعبته ونحن نعيش في الآن والهنا، وكيف يكون هو نسيجا من الوجود الحي، النابض أبدا بالحياة التي تستحق أن تعاش مادام الإبداع سماد الوجود؟