الذين تبكي قلوبهم، وتنقبض أنفسهم، وتنوح أرواحهم، في هذه المواجهة العبثية بين مصر والجزائر، وما تحمله من عار، وما تفيض به من خزي، هم بقية الشعوب العربية الذين لا يفّهمون من هذه الواقعة الا «أوساخها»، ولا يرون الا فضلاتها، ولا يشاهدون الا انحطاطها. فلا أحد يمكن أن يفهم أو أن يبرّر هذا الذي يجري ويحصل، ولا أحد يمكن ان يمسك الا بما رشح منها وفوقها من عار وخزي معا، فذلك فقط ما نراه، ولهذا السبب مازالت ألسن بقية الشعوب خرساء وعيونها جاحظة، وأفواهها مكمّمة، فهي لا تصدق هذا الذي يجري، من هول الصدمة، ومن ضغط كارثة ما كان أحد يتصوّرها، ولا كان أحد يتخيّلها. فهي أكبر من الخيال حقا، وعندما حلّت كانت أكبر من التصديق أيضا. فابتلع الواحد منا ريقه، وفقد نطقه، لهول ما يسمع من سباب وشتيمة طالت الشعوب، ومسّت بالرموز، في لغة هي الانحطاط ذاته، وعبر وسائل اعلام تبث مباشرة سمّا لا دواء له، وكلاما مثل الرصاص الذي لا يعود بعد أن ينطلق من فوهة السلاح، والكلمة تقتل ولا يردي الناس في جهنّم الا أفواههم، ومن صان لسانه صان نفسه. لكن وسائل الاعلام خصوصا الحصرية منها، نسيت كل هذا، واستنفرت رموز مصر (وهنا وجه الغرابة حقا) من كتاب وفنانين ومثقفين وحتى دعاة ورجال دين، ليس للدفاع عن الحس الوطني فذلك حقّ، وليس لصدّ كلام الرعاع والسوقة من جماهير كرة القدم السطحية والبسيطة في تفكيرها، وليس لتحليل الأزمة، لكن لكيل السب والشتيمة للشعب الجزائري، وبلغة سوقية وبكلام بذيء، وبأسلوب لا يمكن القبول به، سوف يخلّف جراحا لن تلتئم وكراهية لا موجب لها، وحقدا مجانيا، وسوف يغطّي عن كلام الشرفاء والعاقلين في مصر الذين هالهم بدورهم ما يجري وأفزعهم ما يقال، لأنهم يعون أولا انه غير معقول البتة، وثانيا أنه يضرّ بمصر وصورة مصر، التي فقدت بالرموز الذين تم تجييشهم رمزيتها كبلد متحضّر ينتج الفنون والثقافة والفكر، ويروّج للسامي من المعاني والنبيل من الابداع. لكن كيف تبقى هذه الصورة، ورموز مصر أو قواها الناعمة كما يردّد الاعلاميون في بلاد النيل، ظهروا بمثل ذلك المستوى أو بتلك اللغة، وبذلك التفكير وراحوا يقلدون بل يزيدون في شحن الناس البسطاء، بسب الجزائر، وثورتها، وشعبها، وشهدائها، مع التعريج المبطن أو الصريح على بلدان المغرب العربي مجتمعة! وكيف يقول السيد مصطفى الفقيه، فوق هذا كلّه، بأنه على مصر أن تدعم بل أن تقوّي علاقتها باسرائيل أولا وبإيران(!!) وتركيا، كردّ على تراجع دورها في المنطقة العربية (والسيد مصطفى الفقيه هو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المصري)، ثم ما دخل دور مصر في تداعيات سخيفة لمقابلة في كرة القدم. وهلاّ يحمل كلام كهذا إهانة لمصر أكبر من أي إهانة أخرى. ثم من هذا الذي أهان مصر والمصريين غير هذه الفئة التي تظنّ أنها تدافع عن مصر، فيما هي ركب موجة كل يوجّهها حسب هواه، ووساوسه، ومزاجه بلا أدنى وعي، ولا أدنى استشارة للعقل. لقد هانت مصر على هؤلاء، فلم يحترموها، ولم يحبّوها بل ادّعوا حبّها، ولم يصونوها بل جعلوها ترمي هذه المرّة بالطوب والحجارة في ضميرها وفي صورتها وفي عراقتها وفي تحضّرها وفي سماحتها. ان حبّ الأوطان لا يعبّر عنه بالانفعالات المريضة، ولا يترجم بسبّ شعب شقيق ولا يدلّل عليه بشوفينية مقيتة، فهذا كلّه لم يقد الا الى نتيجة وحيدة، وهي أن الصّرح الثقافي المصري الذي بُني منذ عقود تهاوى كلّه وترنّح تحت سكرة تلذّذ توجيه الشتيمة للاخرين والسبب مرارة من نتيجة مباراة للعبة سخيفة لا معنى لها. لقد كشف هذا الذي جرى عدّة عورات، مطلوب الآن سترها، وعدّة أمراض مطلوب أن تداوى، وعدّة حقائق يجب ايجاد حلول لها، فليس لحادثة داحس والغبراء الجديدة هذه اي فائدة لأي كان ولا احد يتمنّى للشعبين الشقيقين الا مزيد التقدّم والازدهار في كل الميادين التي تنفع الناس حقا، لا في هذه المجالات التي تخدّر وتقتل العقل وتعوق الفكر وتجعل الحياة كلّها ملهاة وسخفا وعبثا. إنه كلام نوجهه لكل البلدان العربية، فهذا السيناريو المفزع كان يمكن أن يحصل بين أي بلدين عربيين وأوّلهما مصر والسودان ذاتها، التي لولا قرار سياسي بتحييدها لسمعنا تهديدا بتسليم الرئيس عمر البشير الى أوكامبو!