أن يختلف المرء مع بعض المواقف التي تعبر عنها صحف «الموالاة» الخاضعة لتوجيه السلطة. فذلك أمر مفهوم ومتوقع، لكن أن يستشعر المرء خجلا مما تنشره تلك الصحف، فذلك مما يصعب تصوره، ليس فقط لما يعبر عنه من تجاوز لا يليق، ولكن أيضا لأنه يشكل إهانة للبلد الذي يفترض أنه ينطق باسمه. هذه المواد «المخجلة» تنشرها بعض صحفنا القومية كلما حدث خلاف من أي نوع سياسيا أو غير سياسي مع أي دولة عربية. وأقل ما توصف به أنها تدهش قراءها خارج مصر، كما أنها تشعر المصريين بالخزي والعار. المفاجأة هذه المرة مضاعفة، ذلك أن الطرف الآخر الذي تعرض في الأسبوع الماضي للتشويه والغمز واللمز لم يكن على خلاف مع مصر، بل إن التصريحات الرسمية، التي صدرت على لسان وزير الخارجية مثلا، تحدثت عن ذلك الطرف الذي هو تركيا بعبارات مسكونة بالود والترحيب، الأمر الذي يثير أكثر من تساؤل عن الجهة في السلطة صاحبة المصلحة في ذلك التوجيه، وعن هدفها من ذلك. كنت قد أشرت في الأسبوع الماضي إلى حملة التجريح تلك حين كانت في بداياتها، وتزامنت مع بروز الدور التركي في موضوع قافلة الحرية مما سبب حرجا لمصر، وقلت إن خطاب الغيورين والمخلصين ينبغي أن يتجه إلى استنهاض الدور المصري وليس الانتقاص من الدور التركي. لم تكد تمر أيام على نشر هذا الكلام حتى خرجت علينا واحدة من تلك الصحف «الاثنين 7 يونيو» بتقريرين تصدرا صفحتها الأولى، أحدهما يخص مصر تحت عنوان يقول: تكدير السفير الإسرائيلي في القاهرة. أما مضمون التقرير فهو بمثابة استعراض لرد فعل الخارجية المصرية على تصريحات أدلى بها المذكور لوكالة "فرانس برس"، وقال فيها إنه حين استدعى إلى الخارجية المصرية بعد حادث الانقضاض على السفينة «مرمرة»، فإنه شرح موقف بلاده مما جرى، وأن المسؤولين الذين التقاهم «تفهموا» ذلك الموقف. وقال التقرير المنشور إن السفير الإسرائيلي تعرض للتوبيخ والتحذير والتكدير الدبلوماسي، وأنه تلقى «دشا» باردا أثناء اللقاء. وأبلغ باستياء مصر الشديد مما قاله، لأنه يسيء إلى موقفها. بما يعني أن الرجل تلقى «علقة» ساخنة في مقر الخارجية المصرية، وهو أمر يسرنا لا ريب، إذا صح الكلام المنشور، الذي لم نتعود على لغته في التعامل بين البلدين. لم يكن النفخ في الاحتجاج المصري وحده المقصود من الكلام. لأن الصحيفة نشرت تحت التقرير الأول مباشرة لداعي المقارنة ما أسمته «المكالمة الهاتفية التي أطاحت بالكبرياء التركي»، وتضمن ذلك التقرير الثاني نص المكالمة الهاتفية التي سربتها إسرائيل، وجرت مؤخرا بين وزير الخارجية التركي ووزير الدفاع الإسرائيلي، ووصفت الصحيفة المكالمة بأنها تضمنت «انتقاصا كبيرا من الكبرياء التركي» وصل إلى حد الاستجداء لنقل المصابين إلى تركيا، كما أنها احتوت على سقطة تركية غيرة مبررة من الدكتور أحمد داود أوغلو، أما ذلك النص «المشين» فكان كالتالي: باراك: وقع هجوم على جنودنا وجرحوا بالسيوف وتم الاستيلاء على أسلحة جنودنا واستخدامها ضدهم. أوغلو: ننتظر منك الاعتذار لقد اقترفتم جريمة دولية وعليكم أن «تسمحوا» بإرسال القتلى والجرحى إلى تركيا. باراك: لقد تحركنا من أساس الحصار المفروض على العدو في غزة. أوغلو: وهل القتلى أعداء؟ باراك: توجد صواريخ كثيرة ولقد تعرض شعبنا لهذه الاعتداءات من قبل ونحن مختلفون مع حماس وليست لنا مشكلة مع غزة. أوغلو: وهل القتلى وجهوا صواريخ تجاهكم كيف استطعتم قتلهم؟ إن تركيا ليست أي دولة.. تركيا لديها من القوة ما تحمى به مواطنيها. باراك: نحن نحترم تركيا لأقصى درجة ونقدر الدور الذي تقوم به. أوغلو: أي احترام هذا؟ وأنتم تقتلون أبناءنا في المياه الدولية ولا يمكن لأي شخص أن يمس مواطنينا.. إنكم «تناضلون» منذ خمس سنوات من أجل جندي إسرائيلي واحد ومواطنونا بالنسبة لنا أيضا مهمون، وعليكم التعامل معهم باحترام. هذا هو الدليل الذي ساقته الصحيفة لإقناع القارئ بأن كرامة تركيا جرى تمريغها في التراب، في حين أن مصر «مسحت البلاط» بالسفير الإسرائيلي. رغم أن مستوى «ذكاء» الطرفين متقارب، إلا أن الدبة التي قتلت صاحبها كانت أصدق وأكثر أمانة، على الأقل لأنها لم تكذب. وكانت هناك حقا ذبابة حطت على وجهه.