نقطتان لفتتا انتباهي بشدّة وأغريتاني بالعودة إلى موضوع الأحداث التي صاحبت وتلت مباراتي التأهّل إلى مونديال 2010 بين مصر والجزائر وفرنسا وإيرلندة: أمّا النقطة الأولى فتتمثّل في الطقوسيّة العصابيّة الشبيهة بأجواء حفلات الزار التي دارت فيها المباراتان وغلبت ملامحها على الخطاب المتشنّج وغير الواعي (كدتُ أقول المنخطف) الذي عقبهما. وهي طقوسيّة تدعم الرأي القائل بأنّ الفوتبول أصبح أفيون الشعوب الجديد والديانة الوحيدة القادرة على منافسة الديانات التقليديّة. من ثمّة قد نفهم ربّما لماذا قوبل هدف تيري هنري في فرنسا بنزعة من الطهرانيّة العارمة غير المسبوقة، كما قد نفهم لماذا كان «الشيخان» القرضاوي ومدني أوّل «سياسيّين» عربيّين يبادران إلى التدخّل والاستنكار. وأمّا النقطة الثانية فقد تبدو نقيضًا للأولى بينما هي مجرّد وجهٍ آخر لنفس العملة، وتتمثّل في ما غلب على الخطاب الرسميّ من «السينيزم» المتستّر بالحماسة الوطنيّة الأخلاقويّة. فجأة نسي الجميع يد مارادونا الإلهيّة، وفجأة أصبح تيري هنري خطرًا يتهدّد الهويّة الفرنسيّة التي قد تلتصق بها تهمة الغشّ، وفجأة اكتشف الكثيرون مزايا الدفاع عن النظافة والكرامة والنزاهة والقيم، ناسين أو متناسين أنّهم نتاج مجتمع يتفشّى فيه الفساد وتُداس فيه الكرامة وتُعتبر فيه النزاهة نوعًا من السذاجة والغباء وتسوده قيم المنفعة والربح مهما كان الثمن. ليست المشكلة في كرة القدم، بل هي في التوظيف الذي أصبحت الرياضة وجماهيرها ضحيّة له، بفعل الحلف الوحشيّ القائم أكثر فأكثر بين المال والسياسة والإعلام. هذا الحلف الذي غلّب التمثيل على الواقع، حتّى غدونا أمام عالم افتراضيّ حلّ محلّ العالم الواقعيّ، موهمًا مدمنيه بأنّهم في الملاعب أجمل ممّا هم في الواقع، وأنّهم عن طريق اللهو يعوّضون عن هزائمهم ويصالحون بين المردوديّة والاستيطيقا والإيطيقا في لحظة واحدة، مستعيدين بكارتهم الأخلاقيّة الضائعة، متمكّنين من ترجمة الثالوث المحرّم في الواقع (الدين والسياسة والجنس) إلى ثالوث حلال، يفتح لهم آفاقه الرحبة من جهاته الثلاث. من الجهة الأولى: تتحوّل الملاعب إلى معابد افتراضيّة يتوهّمون أنّها تتيح لهم العبادة الوحيدة التي لا يفرضها عليهم أحد، وأنّهم أنداد لمعبوداتهم فيها بل متفوّقون عليها ويستطيعون الإطاحة بها في أيّ لحظة، وأنّهم أحرار في لعب دور الشيخ والمريد والرسول والمفتي في الوقت نفسه...لكنّهم سرعان ما يكتشفون أنّهم يعيدون إنتاج موقعهم في سياق نفس الهرميّة وتبعاتها، مع فارق أنّهم أصبحوا أكثر انفصامًا. من الجهة الثانية: تتحوّل الملاعب إلى «آغورا» افتراضيّة يتوهّمون فيها أنّهم يمارسون حريّتهم في التفكير والتعبير وتغيير اللاعبين والممرّنين والاحتجاج على الحكّام والمحاسبة والمطالبة بالنتائج...ثمّ سرعان ما يتّضح أنّها «آغورا» كاذبة، لأنّها تعيد إنتاج آليّات الاستبداد عن طريق العدد...وعن طريق إحلال التافه محلّ الجوهريّ، لتشتيت الانتباه عن أسئلة الواقع الاجتماعيّ والاقتصادي والسياسيّ والفكريّ. ومن الجهة الثالثة والأخيرة: تتحوّل الملاعب إلى نوع من غرف النوم المفتوحة، يتوهّمون فيها أنّهم يتحقّقون فحوليًّا على سرير العشب ضمنَ طقس جماعيّ ذروتُهُ إيلاج الكرة في الشباك، في نشوة عارمة يخرج على إثرها اللاعبون عن طورهم منسلخين من الزيّ الرياضيّ ملوّحين به مثل قميص البكارة راكضين عراة، ملتحمين بأنصارهم الذين يتداعون لهم بالعنف والتكسير والكلام الفاحش، تعبيرًا عن الفرح أو السخط وأيًّا كانت الشبكة التي ولجتها الكرة. بينما يشهد الواقع تفاقمًا لابتذال الجسد واستعباده، واستفحالاً للخصاء الرمزيّ والماديّ تؤكّده الدراسة ويثبته البحث. ولو تعلّق الأمر بنوع من الكاثارسيس لهان. ولو كانت الطرق سالكة بين هذا العالم الافتراضيّ والعالم الواقعيّ لصفّق الجميع. فالثقافة البشريّة «ملعوبة أوّلاً» كما قال علماء الاجتماع. والرياضة تساهم في بناء شخصيّة الإنسان وفي تمتين اللحمة بين جسده وعقله وفي تنشئته على قواعد العيش معًا وفي إدارة حوار نزولٍ وصعودٍ بين عالمي الواقع والحلم. لكنّ ما يحدث اليوم مختلف عن كلّ ذلك. نحن اليوم أمام مصعد ذي اتّجاه واحد. والمطلوب من هذا المصعد أن يقذف بالإنسان في عالم الافتراض دون رجعة، كي لا يؤثّر الافتراضيُّ في الواقعيّ إلاّ سلبيًّا، أي من جهة تأبيده وتأبيد المستفيدين منه. ومن ثمّ كلّ هذا العنف، والعنف الذي ينذر به.