كما عهدناه ظل وفيّا للأرض التي أنجبته.. مسكون بهاجس النشر حرفا وصورة وصوتا.. لا يهدأ... كل السبل تؤدي الى الابداع عنده... يقفل بابا يفتح عشرات الأبواب شعاره «رب ضارة نافعة»... من النشر الى الكتابة الى الصور المتحركة الى عالم الأطفال الى الانتاج... ظل يسري بوعصيدة هو هو كما عهدناه... حتى حين سافر الى لندن وبيروت كان الوطن معه متفجّرا... حبه للوطن كان أكبر من كل الحقائب والدقات المتلاحقة. تونس اولا وأخيرا... حول بعض تجاربه ونجاحاته وانكساراته تحدث يسري ل «الشروق» كما لم يتحدث من قبل.. ومن لبنان انطلقنا: قضيت أكثر من سنة في لبنان لتصوير 3 أفلام وثائقية لشركة انتاج بريطانية صاحبها تونسي الأصل السيد عماد بلقاسم، واحد عن عاشوراء، واحد عن مسيحيي لبنان وواحد عن تنظيم حزب الله. كيف كانت تجربتك مع تصوير فيلم حول احد التنظيمات الأكثر سرية والأكثر إثارة للجدل في العالم؟ متعبة الى أقصى الحدود وتمثل مادة في حد ذاتها للفيلم بأكمله. المتطلبات الأمنية للحزب، والخصوصية المذهبية لمناطقه، ومشاكل لبنان الطائفية، وحساسية موضوع المقاومة مع أصولي العربية مع ضرورة التزامي بالموضوعية، عقدوا علي المسألة الى أبعد الحدود. لكن نجاح الفيلم وحسن الاستقبال الذي لقاه في الغرب يمكن تفسيره؟ لقد حاولت ان أكون حرفيا قدر المستطاع في طرح الموضوع، حيث فصلت بين المقاومة كحق شرعي للشعوب العربية المستعمرة وبين حزب الله كتنظيم سياسي لبناني او كطائفة دينية لها قناعات قد لا نتفق معها. كما فصلت بين اسرائيل ككيان غاصب وعنصري وبين اليهود الذين يوجد من بينهم أناس يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من بعض العرب والمسلمين، مثل تيري ليفي المتزوّج من شيعية لبنانية ومستقر في لبنان. علمنا ان احدى هذه القنوات عرضت عليك التعامل معها، فهل وافقت؟ (يضحك) أنا من أخبرتك بذلك منذ دقائق. نعم، ولقد رفضت العرض رغم المبلغ الخيالي الذي قدّموه لي، لأن سمعة وطني وكرامته أكبر من أن أبيعها بحفنة من الدولارات وأتعامل مع من يكيل السوء لبلدي أناء الليل وأطراف النهار، فأنا أدين لتونس بكل شيء. لكنك غادرت الوطن على إثر خيبة أمل كبيرة من التلفزيون التونسي الذي سد أبواب العمل معك رغم تميّزك وطنيا ودوليا؟ هل يعني ذلك ان أدير ظهري لبلدي وأصعد على منابر الشيطان لشتمها؟ لم تكن لي مشكلة مع التلفزيون التونسي وإنما مع بعض الأشخاص والذين يتعاملون مع الابداع بعقلية أقل ما يقال فيها أنها متخلفة، لكن ذلك لا يمكن ان ينسيني ما قدمه لي سيادة الرئيس من دعم شخصي مادي ومعنوي منذ سنة 1997 الى حد اليوم. لكنك انسحبت وتسببت في خيبة أمل كبيرة خاصة لقراء مجلة فراشة الصغار الذين يتحسّرون على إقفالها لحد اليوم، او لمن كان يعلق على تجربتك في الرسوم المتحركة آمالا كبيرة؟ بالعكس انسحابي كان ردّ فعل وإدانة لمن خانوا توجيهات الرئيس الذي أوصى بدعم المبدعين والمجتهدين منهم تحديدا ولم يكونوا في مستوى هذه الأمانة. ان الانجازات التي عرفتها تونس في هذه المجالات في عهد بن علي، كان من المفروض ان تقفز بنا الى مستوى العالمية، ولكن أين نحن الآن حتى على المستوى العربي والافريقي؟ أليس من المفروض ان نتساءل بجدية حول هذا التناقض الغريب؟ وما سبب ذلك حسب رأيك؟ سببه ان الرئيس يتعامل معنا بعقلية الأب الذي يدلل ابناءه ويوفّر لهم كل ما يحتاجونه من مقوّمات النجاح والرفاهية، في حين تتعامل غالبيتنا مع ذلك بعقلية الطفل الأناني والكسول الذي لا يستغل ما يوفّره له والده من فرص الا بشكل آني قصير المدى. الأغلبية تفكّر في مصلحتها الشخصية وكيف تجني المزيد لأطول وقت ممكن. لقد قلت منذ اليوم الاول ان تجربة مجلة «فراشة» او الرسوم المتحركة في تونس لن تنجح الا اذا تحوّلت قرارات الرئيس الى عقيدة عمل يومي، وتجاوزنا دور المتلقي الى دور الفاعل لنصبح كلنا بن علي في موقعنا مهما كان حجمه. ان تجربة رئيسنا في تونس ونضاله طوال 22 سنة الماضية لتغيير مصير هذا البلد من الظلام الى النور لا يقل أهمية عن تجربة غاندي النضالية. ومحاربته للفقر والتهميش والعنصرية في تونس والخارج لا تقل اهمية عن تجربة منديلا، ومواقفه التاريخية من قضايا الأمة العربية والاسلامية والسلام وصلت قمة حدود الرجولة والبطولة. ومع ذلك لا نقوم كاعلاميين بالترويج لهذه التجربة العظيمة بما فيه الكفاية في الإعلام الغربي والعالمي، فاسحين المجال لبعض المغرضين لاستغلال ما قد يحتويه كل بيت من بعض المشاكل الصغيرة بين أفراد الأسرة الواحدة ليصنعوا من الحبة قبّة. في النهاية، ماهي مشاريعك المستقبلية وهل سيطول غيابك خارج حدود الوطن؟ عندي توجه للجمع بين التصوير في الخارج والعمل من جديد في تونس. سأتقدّم من جديد ببعض الأفكار لقناة تونس 7 وسأعمل على إنهاء النسخة السينمائية لفيلم فكري وكسلان الذي يلاقي دعما هاما من وزارة الثقافة والمحافظة على التراث. لكن يبقى حلمي الأكبر هو انتاج وثائقي حول تجربة بن علي بمعايير الجودة العالمية وموجه للغرب. أنظر مدى تأثير الروبورتاج الذي قدمته تونس 7 على الحياة اليومية للرئيس على المتفرج التونسي، وستعلم مدى أهمية فيلم كهذا للجمهور الغربي، لأن من يفتقد المعلومة لا يستطيع ان يكوّن فكرة صحيحة، وواجب ابلاغ المعلومة يقع على عاتقنا نحن التوانسة، لا أن ننتظر ما ينعم علينا به غيرنا ثم نتباكى على ما نتعرض له من ظلم في الإعلام المأجور.