اعترف أمس الوزير السابق في عهد بورقيبة وعضو المجلس القومي التأسيسي الذي سنّ وأصدر الدستور بأن عددا هاما من القرارات المصيرية اتخذها بورقيبة خارج المجلس وكانت مداخلة الفيلالي خلال أشغال الندوة العلمية التي نظمها المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية على مدى يومين. الندوة تناولت الإشكاليات المطروحة «من دستور 1861 إلى دستور 1959» وذلك بمناسبة الذكرى الخمسين لإعلان الدستور التونسي وقد ا نتظمت الندوة بمدرج قرطاج الحداثة بجامعة منوبة. مداخلة الفيلالي كانت شهادة تاريخية لنص علمي أكد من خلالها بأن عددا هاما من القرارات الحاسمة اتخذها بورقيبة خارج أروقة المجلس القومي التأسيسي وخارج الاتفاق والتشاور مثل إصدار مجلة الأحوال الشخصية وإلغاء التعليم الزيتوني وإلغاء المحاكم الشرعية ونظام الأحباس... وقال الفيلالي لقد اخترنا في المجلس بعد نقاشات واختلافات النظام الرئاسي كشكل لنظام الحكم في تونس إلا أننا لم نتخذ ذلك بالنظر إلى المفهوم التاريخي والسياسي للنظام الرئاسي بل بالنظر إلى شخص بورقيبة وأضاف «لقد كانت نظرتنا نظرة ظرفية تغلبت على النظر إلى الأفق التاريخي البعيد فبورقيبة كان زعيما لما قاساه من سجون ومنافي إضافة إلى قوته وقدرته على الاقناع وثقافته». جبهة غير صلبة حول تشكيل المجلس القومي التأسيسي وصياغة الدستور قال الفيلالي في شهادته إنه في بداية 1956 في خضم المشاكل الداخلية التي عرفتها البلاد خاصة الخلاف بين بورقيبة وبن يوسف كان المناخ السياسي يدعو إلى تكوين جبهة قومية تكونت من الحزب واتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد المزارعين... وذلك لدرء المشاكل الداخلية نظرا لمحنة الانقسام التي كانت تهدد المجتمع التونسي ثم معالجة القضايا المطروحة انذاك ومن جملتها إنشاء دستور لبناء الدولة. وقال أيضا إن الجبهة لم تكن صلبة أو عميقة بل كانت مجرد اتفاق مشروط إلى حين. جاء على خلفية صراع بورقيبة وبن يوسف إذ كانت هناك مرجعية زيتونية متمسكة بالهوية العربية الإسلامية لتونس وبين جيل ينادي بالمجتمع الحداثي الجديد وكان المرحوم الشاذلي النيفر يمثل الشق الزيتوني فيما كان الباهي لدغم يمثل الشق الثاني، وقد وقع اختلاف وافتراق حول مسألة تحديد الهوية، إذ طالب النيفر وأنصاره بأن يكون الفصل الأول من الدستور متضمنا لتونس دولة إسلامية عربية في حين رفض الشق الآخر هذا التحديد و«الانحياز الذي لا طائل منه» وطرح فعلا إشكال مفهوم الانتساب والهوية، فتدخل بورقيبة وحسم الأمر عندما طرح القول بأن تونس حرّة مستقلة، الإسلام دينها والعربية لغتها فوافق الجميع. كما استأثرت إشكالية التفريق بين السلطات الثلاث الاهتمام بالنقاش والاختلاف بين من رأى بأولوية السلطة التنفيذية أمام بقية السلط وبين من تمسّك بأولوية السلطة التشريعية، لكن تم الاتفاق في النهاية على أن تكون الحكومة مسؤولة أمام الرئيس وليس أمام السلطة التشريعية كما عرض السيد مصطفى الفيلالي بعض الإشكاليات الخلافية داخل المجلس مثل تضمين مبدأ الحق في العمل في الدستور قبل أن يتم إقرار ذلك لكن بتضمينه في ديباجة الدستور. حكاية دبابات وزارة الدفاع روى حادثة بعد الاستقلال في استحداث وزارة للدفاع الوطني وأخرى للخارجية وعندما تقرّر تخصيص مبالغ مالية لوزارة الدفاع سأل بورقيبة قال، هذا المبلغ كم يشتر لنا من دبابة لحماية حدودنا الغربية من الاعتداءات الفرنسية فأجابه الباهي لدغم الذي كان يعيش في أمريكا بالقول لا تتجاوز ثلاث دبابات أما عن الطائرات الحربية فرد لدغم بأنه لا قدرة لميزانية الوزارة على شراء أي طائرة حربية عندها شعر الجميع بالحيرة فتدخل بورقيبة وقال أوصيكم بأمر ما أن تخصّصوا تلك الأموال لوزارة التربية فسلاحنا الوحيد ضد فرنسا هو القضاء على الجهل وهو تكوين الإنسان الذي هو عماد البلاد. وقال لقد كان لبورقيبة حسّا سياسيا وكان محنّكا ومثقفا وواسع المعرفة والدراية ونفى القول بأن بورقيبة كان مستبدّا خلال فترة حكمه الأولى، وحسب الفيلالي، فإن ما عطّل مواصلة الاختلاف الاجتماعي ورسّخ الاستبداد الفردي هو الانتماء الحزبي الذي حال دون معارضة بورقيبة وقال «أعتقد بأن الحزب السياسي في تونس تكلّس وأصبح حزب الرأي الواحد» إذ كان هناك التزام وانضباط حزبيان أدى إلى الولاء الشخصي مع بروز الثقة في صلاحية منهج الدولة وبالتالي منهج بورقيبة وما يسمّى بالاخوة السياسية والثقة في الرجال وعوض أن يكون في الحزب سلطة مضادة فلقد لعب الجميع دور المعاضدة» وقال أيضا لقد تغلبت المفاهيم الوجدانية على المفاهيم الفكرية وطغى بذلك التراكم الوجداني على العملية السياسية برمتها، وأكد على أن ما أحدث الفراغ والضرر هو استقالة النخبة السياسية لفائدة مبدأ الولاء الشخصي لبورقيبة وأعطى مثالا حول تقدم الهادي خفشة وزير العدل انذاك بمشروع قانون لإلغاء الروزنامة الهجرية وجرى النقاش فقال الفيلالي إن التاريخ الهجري داخل في هويتنا المنصوص عليها بالفصل الأول من الدستور إضافة إلى أنه جزء هام من تاريخ بلادنا واقتنع جل النواب بوجهة النظر هذه لكن عند التصويت برفع الأيدي عارض المشروع شخصان وبعد الخروج من المجلس قال الفيلالي لقد اتصل بي عدد من النواب وتوجهوا لي بالشكر على موقفي الذي اعتبروه سليما وقال «لقد سألتهم عن سبب التصويت لفائدة المشروع رغم اقتناعهم بعكس ذلك فكانوا يجيبونني بأن «سي الباهي هو أخ لنا وابن الحزب ونحن لسنا بحاجة إلى خلافات وانقسامات». عنف وسياق تاريخي وافق الفيلالي خلال ردّه على بعض الأسئلة والمناقشات بوجود عنف وقسر سياسي واجتماعي عميق، إذ لم تشارك أي امرأة في أشغال المجلس القومي التأسيسي إضافة إلى أن بورقيبة سن العديد من القرارات دون الرجوع إلى المجلس فضلا عن إحداثه انقلابا في المجتمع والعائلة التونسية بسنه القانون المتعلق بمجلة الأحوال الشخصية. واعترف في نهاية شهادته بارتكاب غلطات وأخطاء أثرت على المسار السياسي والتاريخي للدولة والمجتمع وقال «إن تلك الفترة كانت عصية في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن الدستور إلا مسودة أولى لبناء المستقبل» لذلك دعا إلى أن تتم دراسة الدستور ضمن حقبته وسياقه التاريخيين إذ هناك تاريخية لكل حدث.