(1) ... ثمّة كتاب انصرفوا الى موقع الانتظار.. يعيشون على وقع أعمالهم القديمة ويتلذّذونها ويعتبرون أنها ارتقت بهم الى مطاف أدبي لا يزحزحون منه ولا يعزلون فهذه الأعمال تضمن لهم أن يكونوا في الساحة ولا حاجة لهم بجديد (وهذا يحدث كثيرا).. وثمّة كتاب حاربوا الظروف وحرصوا على الصمود رغم العقبات.. انضبطوا والتزموا بالعمل والجدية وكفوا عن الثرثرة والجدل الفارغ وراحوا ينحتون أسماءهم شيئا فشيئا.. (2) من هؤلاء الكتاب الصديق عباس سليمان الذي ثابر وأخلص لتجربته.. منذ أشهر قليلة وصلتني روايته «سفر التيه» ولم أكتب عنها لأني مكثت أتحيّن الفرصة المناسبة.. وقبل أن أفعل فاجأني عباس سليمان مشكورا برواية جديدة طبعها في توزر وتحمل عنوان «جحيم في الجنة» وهي العمل الثامن لهذا الكاتب الذي سبق له أن أصدر: موتك يقتلني أيام العطش لا موت بعد اليوم رأسي الجديد (في القصة) والنسيان أيام إضافية أخرى سفر التيه (في الرواية). (3) «جحيم في الجنّة».. رواية سلسة.. خفيفة الظل لم تتجه صوب التفرّعات والاستطرادات العديدة.. كان الكاتب منهمكا في السرد وفي تفاصيل واقع تخيّله واستوحاه من الواقع اليومي أي أن الراوي ينقل الواقع الى الفن ولعله ينقل حكاية متكاملة من الواقع الى الفن وطبعا فإن نجاح تقنية الوهم الروائي هو الذي دفعنا الى هذا الطرح.. (4) رواية واقعية (كما يقال) ولكن الواقعية هنا بالمعنى الأدبي لا بالمعنى اليومي الشائع.. فكل شيء ليس بغريب عن الواقع.. كل ما في هذه الرواية شبيه بالواقع اليومي أو مجاور له على سبيل الاستنساخ فالشخصيات مألوفة في المجتمع والأماكن كذلك وأما الأحداث فهي من النوع الذي يحدث يوميا في المجتمع التونسي.. (5) تدور أغلب الأحداث في حانة فخمة من نوع حانات النزل وتجري الأحداث على نسق عادي من ذلك النوع الذي تعيشه الحانات أما الشخوص فهم أربع نادلات يضاف إليهم صاحب الحانة وابنه وبعض الحرفاء والعمال وبنية هذه الشخصيات وعلاقاتها تبدو عادية في مثل هذه الفضاءات فثمّة علاقات شغل وعلاقات جنس ومرح. فالكاتب يتوغّل في هذه الرواية في فضاء المحرّم مكانا وحدثا وعلاقات ويقتحم موضوعا ظلّ من أبواب الممنوعات في الثقافة العربية لكنه لا يغامر بتجاوز السقف المسموح به ولم تنتقل كتابته الى ما يسمى بالنمط المتحرّر الذي بدأ يظهر في روايات عربية عديدة.. (6) «جحيم في الجنة» حانة عبد الله الأحمر تمضي بها الأيام فتتبدّل بعد وفاة صاحبها وتحال إدارتها الى نادلة صارت فاتقة ناطقة وتقربت من أسرته ومن ولده واستغلّت حدث الموت.. أربع نادلات يتبدلن وتبدأ الحانة صفحة جديدة أما هنّ فتحوّلن من عالم الفساد والرذيلة الى عالم جديد.. يخرجن من المدنّس الى المقدّس ومن المحرم الى المعقول.. الأولى عادت الى العاصمة لتبحث عن ابنها وتوقفت أخبارها بعد أن كشف السارد حكايتها وتبين انها ابنة غير شرعية لأحد حرفائها الذي كان في علاقة من أمّها.. الثانية تزوجت سائق التاكسي وأصبحت وفية له، الثالثة تقرّبت من أصحاب الحانة وتجرّدت مع ماضيها ومعارفها وسلوكها وأصبحت صاحبة القرار في هذه الحانة، أما الرابعة فعادت الى أهلها لتبعث مشروعا.. (7) «جحيم في الجنة» رواية تكشف فوضى المصير.. تهدم المسافة الفاصلة بين الشرف والرذيلة.. وبين الثراء والفقر وبين الخيانة والأمانة.. رواية تقترب من المرأة السرية التي لا نراها في الواقع اليومي المتاح للجميع أي كونها امرأة الخبايا والخفايا.. رواية هادئة مكتملة البناء السردي خجولة التفاصيل. (8) «جحيم في الجنة» خطوة أخرى في تجربة عباس سليمان الابداعية تحمل هواجس متنوعة أبرزها هاجس الرواية فالراوي يرغب في التوغل الى المناطق القصية واقتحام المسكوت عنه، كما نجد في الرواية هواجس أخرى أبرزها الهاجس الاجتماعي وتحديدا ذلك المتعلق بالمرأة والثروة والفقر والحياة.. (9) «جحيم في الجنة» رواية تحمل عنوانا بين نقيضين متضادين (الجحيم/ الجنّة) ومحتواها يكشف الكثير من التناقضات والاعوجاجات والمصادفات التي يعج بها المجتمع.