عمان الشروق من مبعوثتنا الخاصة فاطمة بن عبد الله الكرّاي: في الاردن لا يسكن الناس وهْم بأن المرحلة العربية الآن قاتمة... وهي لا تتّسم باليسر في أي من مظاهرها... كما أن لدى الاردنيين قناعة راسخة بأن الاحتلال والسطو اللذين يجسّدهما «الاسرائيليون» والامريكان معا، لا يمكن ان يزولا الا بالمقاومة وخلق اسباب العناد الفكري الذي يمكّن المناضل من الانتصار على الغزاة... لدى الاردنيين قناعة أيضا بأن التاريخ الجديد في العراق سوف تخطّه المقاومة، وسوف تبدي الايام ما لم يكن احد يتصوّره: لن يحكم العراق سوى المدافعين عن استقلاله وكرامته... فالعراق حسب اهل الاردن الذين خبروه وخبروا اهله، ليس لقمة سائغة للغزاة بل سيكون العراق درسا وعبرة لمن لا يعتبر... هذه النظرة التفاؤلية تجاه العراق والوضع في العراق، لا تلمسها بين المثقفين والمعارضين والنقابيين المكوّنين لمجتمع مدني متحرّك، مجتمع مدني يحاول ان يتلمّس طريقه نحو «جبهة» موسّعة تضمّ كل الحساسيات السياسية والفكرية وتقطع الطريق امام «الوافدين» الجدد على الساحة أولئك الذين يقول الواحد فيهم كلمة ويكتب سطرا هنا او هناك واذا به يقيم منتدى او ملتقى تمويله مشبوه ضد دوائر أجنبية... إذن هؤلاء المثقفون الذين لا يركنون الى اختصاصاتهم المهنيّة والعلمية فقط (أطباء ومهندسون وجامعيون ومحامون...) ليتجاوزوها (الاختصاصات المهنية) الى فضاء ارحب: الكتابة على صفحات الجرائد من خلال عمود اسبوعي او نصف اسبوعي... إذن نظرة التفاؤل بأن يتحوّل العراق وبتؤدة الى «مقبرة» للغزاة او مستنقع للاحتلال وعملائه، لا تحدو هذه الشريحة سالفة الذكر فحسب، بل كذلك جزءا من شخصيات رسمية وشبه رسمية ترفض الافصاح عن هويتها... لضرورات الحكم والسلطة... فبالنسبة للفئة الاولى، تحدو الجميع قناعة متفاوتة بأن المنطلق في الصراع هو قومي بالاساس، وأن لا فرق بين الاردن او فلسطين او مصر او المغرب او العراق في نظر الطامعين المستبدّين بالبشر في كل مكان... فقط هناك فارق في التوقيت تقتضيه المصلحة... مصلحة الغزاة فقط هي التي تحدّد التوقيت... توقيت الانقضاض على خيرات بلدان واستقلالات بلدان اخرى...؟ هؤلاء يرون ان الاردن يوجد على صفيح ساخن، وأن اي تحالفات له مع الطامعين في المنطقة مهما كانت ترتدي عباءة الانحناء للعاصفة، فإنه لن يكون بمنآى عن التأثر او عن الخطر... فمن هنا (غربا) فلسطين ومن هناك شرقا (العراق) يقع الاردن... والأردن بموقعه الجغرافي السياسي نجده عرضة لكل التداعيات من القضيتين الساخنتين المذكورتين. أهل الاردن وهم يعون هذه الحقائق ويقفون على مظاهر المخاطر، ليست آراؤهم كلها في تجانس، فهناك موجة عارمة الآن، أحسب أنها بدأت تُلمس في كامل الوطن العربي، اسمها «تمييع القضايا الوطنية والقومية»... كيف ذلك؟ هذه الموجة تبدأ من نوعية الأكل (هامبرغر) الى نوعيّة المقاهي الشبابية المنتشرة هنا وهناك في الاماكن والاحيان الراقية وصول الى نمط التمدرس... نعم، في الاردن يقرّون ان هناك حملة خارجية تعمل على «صياغة» انسان عربي جديد... جديد بمفهوم الاخر، يقبل المشاريع الوافدة على اساس أنها التغيير والاصلاح، ويطبّع مع الاعداء ويدفن القضايا المصيرية ويواريها التراب... هذه المظاهر تحس أنها موضوع صراع فكري الآن في الساحة الاردنية... هذه الساحة التي تخضع كما جل الساحات العربية الى «غربال نعيمة» يسقط منه الطالح ويبقى الصالح... الاردن بين مقتضيات الحكم والتعاطي مع المشاريع الدولية المتهافتة على المنطقة وبين اندفاع المعارضين لكل نمط او مشروع وافد من الخارج... الشعب الاردني الذي يصل تعداده الى الخمس ملايين نسمه، يعدّ الشباب فيه أكبر فئة من حيث العدد... غير أن الشعب الاردني وبحكم الظلال التي تلقيها قضيتا العراق وفلسطين سواء هجرة او تهجيرا او ارادة من أبناء فلسطين او العراق المغتربين خارج حدود الوطن للعمل، حتى يشتروا منازل وربّما يستثمرون في الاردن... نعم، لقد تحوّل المشهد الاقتصادي الاردني الى مشهد استثماري بامتياز يجلب اصحاب المشاريع من العرب ومن الاجانب ايضا... لكنه بالان نفسه هو مشهد يخضع الى تدقيق ومراقبة كبيرين... اذ ليس سهلا التسلل من الضفة الغربية (فلسطين) ولا من «الضفة» الشرقية (العراق)... وليس سهلا البقاء أو المكوث في الاردن بلا سند او مبرّر مالي قويّ، وبالتالي فإن «الغربال» يدخل هنا لفرز الوافدين الى الاردن والذين يريدون ان يعيشوا على ترابه هربا من هموم الاحتلال في فلسطين او في العراق. ففي الاردن حركة شعبية ضد التطبيع تبدو قويّة ولها اهداف يصرّ المؤمنون بها على تنفيذها ودحر كل المشاريع التي يمكن ان تجعل من الاردن «حاضنة» لمشاريع تطبيع مشبوهة... وفي الاردن ايضا موجة او اتجاه اصبح يجاهر بأفكاره ولا يحسّ ببذرة نقص تجاه ما يقدم عليه... المناولة عن بعض الشركات «الاسرائيلية» عبر وساطة امريكية او اوروبية. وفي الاردن مخيّمات للاجئين الفلسطينيين... وفي الاردن ايضا هيئات تستقبل لاجئات عراقيات او بعض من لم يجدوا في الوطن ما يجعلهم يعودون كليا مع كل افراد العائلة من السويد او من امريكا فآثروا شراء بيوت يدعون فيها «عوائلهم» حتى يتبيّن الاستقرار من الفوضي... كما يقول بعضهم. هذه أفكار تقرؤونها مضمّنة في لقاءات عن التطبيع ومناهضته وعن اللاجئين وجريمة العصر وعن العراق الذي يعمل الاعداء الداخليون والخارجيون على نهبه وتركيعه... وعن موقف ابناء الاردن من كل القضايا المستجدّة والمتفرّعة عن القضيتين المركزيتين العراق وفلسطين، ومنها حق العودة من عدمه في عيون اللاجئين الفلسطينيين وكذلك المقاومة ضد الاحتلال الامريكي من عدمها في العراق.