لكأنّه أدرك فداحة الوضع الفلسطيني الذي نذر له عمره فرحل عنه وعنا من دون استئذان.. لكأنّه عرف أنّ القضيّة الفلسطينية بلغت مدى من ضياع الثوابت وتلاشي المحددات فاختار أن ينسحب مصطحبا معه مبادئ الثورة ومقاصدها... عجب عجاب لصنّاع الثورة الفلسطينية يغادرونها ويغادروننا تترا.. فبعد ياسر عرفات وجورج حبش وشفيق الحوت ومحمود درويش هاهو أنيس صايغ يحزم حقائبه من دون أن يمهل «للمسألة الفلسطينية», بعد أن تحوّلت من البندقية الى غصن الزيتون، فرصة لإتمام فصلها الأخير . وفي الظرف العصيب الذي تمرّ به القضية الفلسطينية يصبح مجرّد تذكّر المناضلين وتأبينهم دروسا في الالتزام بالمبادئ الوطنيّة.. خاصّة عندما تغيب القدوة ويضمحلّ النموذج... فأنيس صايغ اختار منذ البدء أن يكون المرجع الثقافي للثورة الفلسطينية، فلا قيمة معنوية لأيّة حركة تحرريّة لا تستمدّ شرعيتها من حقائق التاريخ والجغرافيا والحضارة...ولهذا فقط انخرط منذ سنوات شبابه في مشاريع تأريخ التّاريخ الفلسطيني وفي توثيق أسماء القرى والمدن الفلسطينية,,,ولهذا أيضا طاردته الأيادي الصهيونيّة ساعية الى إيقاف استحضار الذكريات واستذكار أسماء المدن والقرى، فأخذت منه إصبعين وشيئا من نور العينين,, ولكنّها لم تأخذ شيئا من عزمه على إسقاط قناع الضحيّة عن الجلاد,,,وعلى رفض كافّة مشاريع التسوية الاستسلاميّة,,, فهل من الصدفة إذن أن يتوفى في نفس الوقت الذي صفّت فيه إسرائيل 6 فلسطينيين، فتصعد روحه مع أبناء النضال والاستشهاد ...وهل من الصدفة أيضا أن يقضي نحبه في نفس الظرف الذي يدعو فيه مسؤول فلسطيني الفلسطينيين الى عدم ردّ الفعل عن المجزرة والاكتفاء بالالتجاء الى واشنطن القادرة وحدها على حماية حقوقنا الوطنيّة، ,فلا يكون شاهدا عن قلّة الحيلة وهوان الرأي.. وهل شاءت الأقدار أن يرحل قبل إتمام الإخوة المصريين بناء الجدار الفولاذيّ فيموت بذلك بمرضه ولا يموت بغصته وحسرته ؟ وهل أبت الإرادة الإلاهية إلاّ أن تختاره قبل أن تستعرّ نيران الخلافات الفلسطينيّة وقبل أن يستحيل الدم الفلسطينيّ الى أنهار تسقي الأرض فتكرّس الاحتلال وتجذّر وجوده ؟ صحيح أنّ «أوسلو وأخواتها» حوّلت المفكرين والمؤرخين والمثقفين الملتزمين بالقضيّة الى طيور تغرّد وحدها ولا تصنع ربيعا...وصحيح أيضا أنّ «إعلام أوسلو» وأخواتها غيّر من أسماء القرى الفلسطينيّة وبذل حقوقا وطنية لمن لا يستحقّ بيد أنّ التاريخ يرفض أن يركن للتسميات الكاذبة وطالما أنّ في كلّ بيت فلسطيني وذهن عربي كتاب أو مقال لأنيس صايغ أو وليد الخالدي أو أنيس الخوري أو هاني المصري أو عزمي بشارة أو رشاد أبو شاور ...فإنّ الحق راجع لا محالة....