ثمّة سؤال مازال يخامرني كلّما تحدّثت عن الشعراء وهو: هل يعتقد هؤلاء، فعلا، أنهم كائنات مخصوصة بالالهام، تأتيهم القصيدة من مصادر غامضة يتلقونها عن طريق الحدس والقلب. عدت هذه الأيام إلى أقوال الشعراء وأردت الظفر بإجابة مقنعة عن هذا السؤال. ولعلّ أول ما وقفت عليه أن الشاعر كان في معظم الحضارات الانسانية مخلوقا مخصوصا برسالة، بينه وبين القوى الغيبية أسباب وصلات، وربما ارتدّ ذلك إلى الاعتقاد في أن من يمتلك اللغة يمتلك الطبيعة، ومن يستحضر اسم الشيء يستحضر الشيء ذاته. فالكلمة لم تكن، في معظم الحضارات، مجرّد صوت هوائي مرسل وإنما كانت قوّة قادرة على تحويل الأشياء وإرساء كينونتها. هذه القوة الخارقة التي نسمّيها اللغة يستلهمها الشاعر من قوى غير منظورة، وهذا ما أكّده أفلاطون حين قال ان الموهبة التي يمتلكها الشاعر ليست فنّا ولكنها إلهام.. هذا الالهام هو الذي يجعل نصّ الشاعر مثل المغناطيس الذي لا يجذب حلق الحديد فحسب ولكنه ينفث فيها قوّة جذب حلق أخرى كتلك القوة، وقد ترى أحيانا قطعا عدّة من الحديد والحلق تتدلى إحداها بالأخرى فتؤلف سلسلة طويلة ولكنها تستمدّ قوّة الجذب من المغناطيس الأول. فالشاعر في نظر أفلاطون ليس إلا إنسانا ملهما تتكلّم السّماء على لسانه، وبالتالي فهو رجل مسلوب الإرادة غريب عن فنه، لذا وجب فصله عن شعره فصلا كاملا، فإذا كان الشاعر ينتمي إلى عالم البشر الفانين فإن الشعر صادر عن السماء التي لا تكبر ولا تهرم ولا تموت. وشبيه بهذا الاعتقاد ما كان يقول به العرب من أن مع كل فحل من الشعراء شيطانا يقول ذلك الفحل على لسانه الشعر. هذا الارتباط الوثيق بين الشعر والالهام ظلّ مترسخا في النفوس، مستبدا بالعقول ولم ينحلّ بانبثاق عصور العلم بل لعلّه ازداد وثوقا، ويكفي أن نشير إلى صورة «الشاعر النبي» التي تردّدت بإلحاح لافت للانتباه في الحركة الرومنطيقية فالشاعر في هذه الحركة قد تحوّل إلى راء وسامع يرى الخفيّ والمحجوب ويسمع نداء الغيب، ويلبّي نداءه، المعلوم عنده مطية إلى المجهول والأشياء المرئية لا تعدو أن تكون رموزا خفية». لكن الاعتقاد في نبوءة الشاعر لم ينطفئ بانطفاء الحركة الرومنطيقية ولم ينحسر بانحسارها. فالشعراء المعاصرون بقوا مثل أسلافهم الرومنطيقيين يقرنون الشعر بالوحي والالهام.. وهذا، في نظر أدونيس استمرار لتقليد سام عريق. لكننا نستدرك على كلامه قائلين إنه تقليد انساني قديم. هذه الوشائج التي تربط بين الشاعر والنبي يؤكدها أيضا عبد الوهاب البياتي فهو يقول: «سقراط لم يخطئ عندما جعل الشاعر عرّافا، فالحياة دون نبوءة موت مؤجل.. ثم يضيف: «لماذا يرى سقراط أن الشاعر بمثابة العرّاف إذا كان الموت كتب علينا جميعا فالشاعر بمجرّد أن يتخطى أسوار الحاضر حتى ينسلخ عن الزّمن، يصبح خارجه فلا يدركه الموت، وبذلك ينتقل من كائن نهائي إلى كائن لا نهائي فتقف الطبيعة صاغرة أمامه منهوكة القوى».. صلاح عبد الصبور يرى من جهته بين الشاعر والنبي علائق عديدة أولها «النظر إلى الحياة ككلّ لا كشذرات متفرقة في أيام وساعات ومن هنا فهمومهما تختلط فيها الميتافيزيقي والواقع والموت والحياة والفكر والحلم». وثانيها «شهوة إصلاح العالم».. ويستمر الشعراء في تأكيد هذه العلاقة فحين يقول محمود درويش في احدى قصائده: وفي الصحراء قال الغيب لي آكتب فإنه يستعيد هذه العلاقة ويؤكدها فهو مثل كل الأنبياء الذين شافههم الغيب بالخطاب، يستضيف كلمة السماء ويحوّلها إلى قصيدة. تجذب الناس إليها كما يجذب المغناطيس حلق الحديد.. على حدّ عبارة أفلاطون.