يبدو المشهد السوداني مع مطلع هذا العام متوترا أكثر من أي وقت مضى، فالبلد مقبل على استحقاقات خطيرة لكن الوضع الميداني والمناخ السياسي لا يوحيان بأن الأمور ستسير على النحو الذي يضمن وحدة أكبر بلد إفريقي بل ان شبح التقسيم بات يهدّد البلد بشكل أشدّ هولا وفزعا.. فما هي العوامل التي رمت بالسودان في هذا المنعطف الخطير، وكيف السبيل الى إنقاذه من الانهيار؟ السودان يستعد لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في أفريل المقبل، وهي الأولى منذ 1986، وسط أجواء من التوتر والخلافات التي لا تكاد تنتهي، فأحزاب المعارضة في الشمال تطالب بمزيد من الاصلاحات السياسية التي تراها ضرورية لإقامة الانتخابات، وهي تدعو تحديدا الى «تعديل كل القوانين المتصلة بالحريات وبالتحول الديمقراطي» للسودان، وكان يفترض أن تجري هذه الاصلاحات قبل موفّى نوفمبر الماضي، أي قبل ستة أشهر من موعد الانتخابات وفق ما ينص عليه الدستور المؤقت للبلاد، وهذا يعني أن الهدوء الحالي من جانب هذه الأحزاب قد يخفي حالة من الغليان التي ستلقي بظلالها حتما مع اقتراب موعد الانتخابات، مما قد يؤثر في مسارها أو ربما يفشلها طالما أن هذه الأحزاب تربط مشاركتها في العملية الانتخابية بإجراء هذه الاصلاحات. ولا شكّ أن السودان سيكون أمام اختبار صعب في مرحلة ما بعد الانتخابات، حتى في صورة سير العملية السياسية بشكل هادئ وسلس لأن تجربة تقاسم السلطة في السودان لم تحمل حتى الآن مؤشرات إيجابية بل كانت موسومة بالفشل والتوتر، وأكبر دليل على ذلك حالة التوتر بين المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان رغم مرور خمس سنوات على توقيع اتفاق السلام بينهما والذي أنهى أكثر من 20 عاما من الحرب الأهلية. وعلى ذكر الجنوب تواجه الخرطوم تحديا صعبا على هذه الجبهة مع اقتراب موعد إجراء استفتاء يحدّد مستقبل جنوب السودان العام المقبل، فأحزاب الجنوب متمسّكة بمبدإ الأكثرية البسيطة (50٪ + صوت) لإعلان استقلال جنوب السودان خلال الاستفتاء على هذه المسألة الشائكة خلافا للحدّ الأدنى المحدّد ب75٪ الذي يطالب به الحزب الحاكم. ويبدو أن هذه المعضلة لن تجد طريقها الى الحل دون إطلاق حوار وطني شامل هادئ ورصين قبل خوض هذا الاستحقاق الخطير، وهو ما يبدو مستبعدا على المدى المنظور مما يوحي بأن الأمور ستبقى على ما هي عليه مع ما يعنيه ذلك من احتمالات الانفجار في أية لحظة. ويُضاف الى هذه المسائل الشائكة وما خلقته من توترات سياسية ما يجري على الأرض من سباق محموم نحو التسلح وما كشفته الأممالمتحدة والمنظمات غير الحكومية من حقائق مذهلة في هذا الشأن بشكل يهدد البلاد جديا بالعودة الى الحرب الأهلية. وفي هذا السياق يقول إريك بيرمان، المدير الاداري لمركز مسح الأسلحة الصغيرة، ومقره جنيف، إنه «مع استمرار العنف في جنوب السودان ودارفور وتزايد التوترات بين الحكومتين الشمالية والجنوبية فإن التدفق المستمر للأسلحة يجب أن يكون مبعث قلق كبير لدى المجتمع الدولي». لهذا المجتمع أن يعبر عن قلقه ولكن عليه أيضا أن يتحرك لإنقاذ السودان من كارثة تبدو محققة خصوصا في ضوء الاتهامات المتبادلة بين الشمال والجنوب، فالمسؤولون الجنوبيون يتهمون خصومهم السابقين في الحرب الأهلية في الشمال بتسليح ميليشيا قبلية منافسة لزعزعة الاستقرار في منطقتهم قبل الانتخابات والاستفتاء فيما تنفي الخرطوم ذلك وتتهم الجنوبيين بأنهم جزء من مؤامرة خارجية تستهدف وحدة البلاد. وحتى اتفاق السلام الموقع بين الجانبين عام 2005 أسهم بشكل ما في خلق هذه الحالة، حيث يسمح أحد بنود هذا الاتفاق لكل من الجيش الشعبي لتحرير السودان والقوات المسلحة السودانية الشمالية بالتزود بالأسلحة بموافقة مجلس الدفاع المشترك بين الشمال والجنوب، وهي هيئة هشة تعكس هشاشة الاتفاق وأيضا هشاشة الأوضاع الأمنية خصوصا في الجنوب الذي عاش منذ مطلع هذا العام أسبوعا من المعارك القبلية خلفت 140 قتيلا على الأقل فضلا عما خلّفته مثل هذه المعارك من ضحايا بلغ عددهم 1200 شخص على امتداد العام الماضي فحسب وفق أرقام منظمات الاغاثة التي أطلقت مرة أخرى هذا الأسبوع صيحة فزع وتحذيرات شديدة من عودة شبح الحرب الأهلية ووضعت المجتمع الدولي أمام واجباته والتزاماته إزاء السودان لمنع الكارثة.. الفرصة لا تزال قائمة لو تظافرت الجهود في الداخل وفي الخارج وإذا صدقت النوايا في الاصلاح وانتشال السودان من هذا الكابوس.. أليس من حق هذا البلد العملاق أن يعيش في سلام ووفاق؟