كنت أرى في صباي عجوزا تزور العائلة حينا بعد حين، فتملأ الدار ثرثرة، وتأتي من الحمق وسفاهة القول والفعل ما يدفع النسوة إلى السخرية منها. سمعت مرة إحدى عجائزنا تقول عنها: «وهل لها عقل هذه المرأة ضربها زوجها فتقبل وتبقى معه في منزل واحد؟ ألم تسمعوها تتباهى بآثار الجلد على لحمها فتقول: حبيبي لبّسني جبّة مورو.. هل هذه امرأة أم دابّة؟». وكانت حالة غريبة بالنسبة لنا جميعا، فأنا لم أسمع في طفولتي وشبابي برجل يضرب زوجته. قد يحصل خلاف أو ينشب نزاع، وقد تعلو الأصوات أحيانا، وتنفلت شتيمة، سواء بين أقاربنا أو عند الجيران، لكنني لم أعلم بحدوث عنف قليل أو كثير، حتى أخذتني الحياة في دروبها فسمعت وقرأت، وشاهدت في السينما أو التلفزيون أنباء عن عنف مسلط على النساء، هو بكثرة وتنوّع وشدّة قد تصل إلى حدّ الجريمة، ترصد الجرائد أحواله يوميا حتى صار من الأمور المألوفة التي لا تفاجئ أحدا. وفي أيامنا هذه تنوّعت الأحوال، أو اقتسمت فيها الأدوار بين الرجال والنساء، فبدأنا نسمع بالرجال تضربهم زوجاتهم، وبتكوين جمعيات للدفاع عنهم على غرار ما أنشئ للنساء المضطهدات. وذات يوم غير بعيد طالعتنا صحيفة مغربية بصورة رجل مدمى الوجه والكتفين كالراجع من جبهة قتال، والخبر يقول إن تلك هي آثار «طريحة» تأديبية من زوجته المصون ودرته المكنونة. وفي مرة أخرى رأيت في قناة لبنانية رجلا يشكو زوجة منعته من دخول البيت، وكلما أصرّ على الدخول تناولته بالعصا عساه يرتدع فلا يعيد الكرّة. إن الخلافات بين الزوجين أمر معتاد، لكن أسبابها هي التي تغيرت بتغيّر الظروف الاجتماعية والضغوط النفسية الناتجة عنها، كما إن دخول المرأة حلبة الاعتداء بعد أن كانت معتدى عليها هو عنصر جديد أفرزته ثقافة القرن العشرين. لذا وبعد أن كانت الجهود منصرفة للبحث عما يخفّف من عدوانية الرجل، صار عليها البحث عما يهدّئ من عنف المرأة الذي سجل في البلدان العربية نسبة بلغت ما بين 23 و28٪ من المتزوجين، خاصة في الطبقات الأكثر تطورا، لأنها الأكثر استفادة من التطور الاجتماعي، على عكس أختها الأقل درجة اجتماعية، لأنها أقرب إلى الأمية وأقل جرأة على الرجل. ويعزو علماء الاجتماع أسباب هذه الظاهرة العالمية الجديدة إلى أحد سببين: أولهما انتقال المرأة من مرحلة التحرير إلى مرحلة التمكين، وهذا قد أدى بدوره إلى استيقاظ عقدة التفوق الذكوري لدى الرجل فراح يمارس عدوانا سلبيا ضدّ المرأة، لذا قامت تؤدّبه على هذا، وتلزمه حدوده. الثاني ظاهرة التفوّق الأنثوي الملحوظ في السنوات الأخيرة: نجابة مدرسية التزام وجدية في العمل حرص على التثقف محورية في صلب الأسرة استقلالية اقتصادية. مقابل هذا النفوذ المسجل من طرف المرأة شاهدنا تراجعا في دور الرجل يرجعه علماء الاجتماع إلى القهر والاحباط، فاهترأت شخصيته وضعفت، في حين صمدت المرأة وتكيّفت مع مختلف الأحوال. وقد جرى تصنيف ضرب المرأة لزوجها إلى أربعة أصناف كما يلي: ضرب دفاعي، وضرب انتقامي، وضرب ساديّ للزوج المازوشي، وضرب المرأة المسترجلة لزوجها السلبي الاعتمادي. ورغم أن المرأة رقيقة في أصل تكوينها يغلب عليها الاستحياء عادة، إلا أنها في حالة الهيجان قد تستخدم وسائل ثقيلة تصل إلى حدّ القتل، وبأبشع الوسائل أحيانا. ويحتفظ تاريخ الاجرام في بلادنا بحكاية امرأة عادية قتلت زوجها ووزّعته قطعا في أكياس فرّقتها بين أماكن متباعدة. وإني قرأت مرّة إحصاء طريفا استعرض فيه كاتبه ما تستعمله المرأة من الأسلحة في حالات الثورة والغضب على الزوج فجاء ترتيبها حسب الأولوية في الاستعمال كالآتي: 1 عصا المكنسة، 2 المطرية، 3 منفضة السجائر، 4 سكين المطبخ، أما القذائف فلا يمكن إحصاؤها أو ترتيبها لكثرتها وتنوعها، ولكنها تبدأ غالبا بأغطية المراجل وبالصحون والقدور الصغيرة. وأختم قولي بأنني قرأت للكاتب الانقليزي شكسبير رواية فكاهية عنوانها «ترويض الشرسة» (La mègère apprivoisée) ذكر فيه سلاحا آخر من أسلحة المرأة، لم يرد ذكره في القائمة السابقة، ولكنه ألطف منها جميعا وأجدى مفعولا، وهو وإن كان لا يكسر الرأس ولا يدمي الجسم فإنه يتسرب بخفة إلى النفس فتسكن وتهدأ، ويغشى القلب فيغمره بأرق الأحاسيس. وفي مناسبات عديدة لمست تأثير تلك الأسلحة السحرية على الأزواج، ورأيت كيف صيرتهم أطوع لزوجاتهم من بنان الأصابع، ينفذون طلباتهن (الأوامر أحيانا) بكلّ دقة وانضباط كالآلات الالكترونية. فمن شاءت من النساء معرفة المزيد من أسرار هذه الأسلحة وطرق استعمالها عليها الرجوع إلى الصفحة الأخيرة من رواية شكسبير التي أشرت إليها، حيث التمجيد الكامل لما أودعت الطبيعة في المرأة من رقة ورهافة حسن وطاقة لا تحدّ من العطف والحنان، هي أقدر الأسلحة حسب رأيه ورأيي أيضا على تحقيق أعظم الفتوحات والإتيان بخوارق المعجزات.