علمت منذ السنة الفارطة أن المسرح الوطني عهد للفنان جعفر القاسمي بإخراج عمل مسرحي. لم يكن أبدا من باب الصدفة إتاحة هذه الفرصة لأكثر خريجي المعهد العالي للفن المسرحي تألقا وأكثرهم جدية. كنت شاهدت جعفر المخرج سابقا وكان دائما مبدعا ومقنعا. ولكن لهذا العمل طابعا خاصا. لقد تزامن مع الاحتفال بمأوية المسرح التونسي وجاء ليمثل المسرح الوطني في أيام قرطاج المسرحية. ذلك أن الفنان الكبير محمد إدريس لم يقدم عملا من إخراجه في عام 2009. لقد كانت المراهنة على جعفر جدية والثقة فيه تامة. وعندما خرج العمل إلى الجمهور بعد شهور طويلة وشاقة من العمل كنت أنتظر مشاهدة المسرحية بصبر نافذ. سبقتها أصداؤها. سمعت من قال إنها المسرحية الأكثر حداثة في تونس وهناك من قال إن توظيف الاضاءة كان بارعا والبعض فضّل مسرحية حقائب على آخر أعمال الجعايبي «خمسون». ذهبت لمشاهدة المسرحية ففوجئت مفاجأة سارة طبعا. لقد كان عملا فريدا. ولا أظن أن مرة واحدة كافية لمشاهدته حقا، لم أكد أصدّق أن في جيل مسرحنا الجديد من هو قادر على بلورة رؤى فنية محكمة البناء مفعمة بالطاقة الخلاقة على هذه الدرجة من الجودة. لا يمكن أن أذهب مذهب من أعجب بتقنيات الإضاءة وحدها أو من رأى تفوقا لجعفر على أساتذته من كبار رجال المسرح التونسي. فلم تكن الإضاءة إلا احدى وسائل تشكيل الصور وليست حقائب في مجال المقارنة مع خمسون أو مراد الثالث أو غيرها فهي تقع في سجل آخر من الدلالات. لم يكن للمسرحية قصة متصاعدة الأحداث ننتظر نهايتها قلقين رغم أن فيها شخصيات ذات معالم بيّنة ووضعيات واضحة ومسألة واحدة تقريبا تتناولها المسرحية هي مسألة الممثل. وقد وفق جعفر في هذا العمل في اعتقادي في ثلاثة عناصر على الأقل. أولها طرحه لقضية الممثل في تونس ودخوله في تفاصيل عالم الممثل الذي تتمزقه الطموحات والضرورات واحراجات فنّه الصعب. أما الثاني فهو التعبير عن قداسة المسرح وتجسيد ذلك وأنا أعلم أن المسرح مقدس عند جعفر القاسمي تماما. وأما الثالث فهو التوفيق بين مقتضيات الفن الراقي وطرحه المعمّق وشعبية المسرح وملامسته للجماهير على اختلافها. وقد تجلى كل ذلك من جانبين أساسيين في شخصية جعفر نجدهما مبثوثين في علم الممثلين وفي صور المسرحية وهما من مفارقات هذا الفنان التي تصنع هويته الفنية ألا وهما روح الجدية والصرامة والاحساس الواعي العميق من ناحية وروح الكوميديا والتناقض المضحك الذي يراه جعفر في ظواهر الحياة من أشدها تفاهة وبساطة إلى أكثرها جلالا وتعقيدا. أنيس حمدي (أستاذ بجامعة القيروان)