إن احتفاء المسلمين بذكرى مولد نبيّهم الكريم صلى الله عليه وسلّم يعدّ إحدى التعبيرات عن الفرح والابتهاج ببعثة الرسل هداة للبشرية الى التي هي أقوم ومنقذين إياهم من مهاوى الضلالات ومخرجيهم من الظلمات الى النور، وخاتمهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه جلّ وعلا {لقد منَّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويُزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران 164) وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:129)، فالاحتفال بميلاده عليه الصلاة والسلام إنما هو في حقيقته شكر لله على فضله وكرمه أن ضمن للعالمين سبب السعادة الدنيوية والأخروية وأرسل رحمة مهداة أنارت العالم بقيم السماحة والمحبّة والتعاون وفضائل الخُلُق العظيم،قال أصدق القائلين {قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل الله يمُنّ عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات: 17). وقد عرفت تونس أجواء الاحتفال بهذه المناسبة الدينية العطرة منذ قرون يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: «وأول من سلك هذا المسلك من سلوك المغرب السلطان أبو عنان المريني ونحا ذلك النحو السلطان الجليل أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الحفصي سلطان تونس وعيّن لذلك ليلة إثنتي عشرة من ربيع الأول فكم أغدق في تلك الليالي من خيرات وأجرى من عوائد وصلات... وكم من لطف خفي حفّ بهذه البلاد لعلّه من بركات هذا الاعتناء قال ابن الجوزي: «مما جرّب من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الاحتفال بيوم مولده أمان في ذلك العام وبشرى لمن فعله بنيل المرام» (قصة المولد ص12). ولا فائدة في خوض الجدل القائم بين بعضهم في النظر الى الحكم الفقهي لهذه الاحتفالات التي يتداخل فيها الديني بالعادات والتقاليد المألوفة التي تختلف باختلاف الجهات والأقطار، فقد حسم في المسألة كثير من العلماء المحققين وذهبوا الى أن هذا العمل لم يكن مألوفا في العصور الاسلامية الأولى فيكون مبتدعا محدثا غير انه اذا ما خلُصت فيه النية وكان المقصد منه تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلّم وأخلاقه وشمائله للاقتداء والتأسّي الحسن، ولم تعلق به منكرات ومفاسد، كان من طيّبات الأعمال وحسناتها ويُثاب عليه فاعله، ولا وجه حينئذ لتحريم مستحسن في الشرع والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد التحريم. ففي المولديات يتلى القرآن ويصلّى على النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم وتُسرد سيرته الفيحاء وتشنّف الآذان بمديحه العذْب وتُلقى الدروس والمواعظ وتنتظم المواكب والندوات والمجالس المباركة ويهنئ الناس بعضهم بعضا ويلبسون الجميل وتكون التوسعة على العيال إظهارا للنعمة واستزادة منها، فيتنعّم المحتفلون في أيام غُرر من شهر ربيع الأنوار ببهجة الإيمان وألق الذكر مستحضرين قول الله تعالى داعيا الى اتباع الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم والتخلّق بخلقه العظيم: {قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} (آل عمران 31). ومما هو معلوم ان مناسباتنا الدينية قد اقترنت في بلادنا كما في بلدان أخرى بجملة من العادات الطيبة منها تخصيص أكلات بعينها اجتهد آباؤنا في الحفاظ عليها باعتبارها جزءا من ذاتيتنا وخصوصيتنا الوطنية وأثبتت سلامتها بل وفوائدها الصحية مما يؤكد ضرورة التشبث بمخزوننا التراثي باعتباره عاملا مهمّا في ترسيخ انتمائنا وهويتنا، وكفيلا بتحقيق التوازن. نقول هذا إشارة الى أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف كغيره من المناسبات الدينية الأخرى يستدعي منا تعقّلا في الاستهلاك، ورشادا في التصرف عملا بتعاليم ديننا الاسلامي الحنيف الذي ينبذ التبذير ويحض على الاعتدال، ومراعاة لواجب الحفاظ على المخزون الفلاحي والغذائي وحماية لعاداتنا الغذائية التونسية الأصيلة من تدفق الأكلات الدخيلة علينا التي عادة ما تكون مكلفة فتُرهق كاهل الأسرة وتُسهم مع ذلك أحيانا في التعكّرات الصحية لدى البعض. وحقيق على المسلم في مثل هذه الأيام السعيدة ان يلتزم شرع الله بالامتثال لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف: 31) وقوله {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يفتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان: 67) وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 143) فالفرحة لا تكمل الا بالحفاظ على ما أعطانا الله ورعاية الصحة التي هي أمانة استودعنا الله إياها وتحصين ثرواتنا التي هي حق للجميع. وما اجمل أن تقترن البهجة بالحكمة، التي تقتضي منّا الحفاظ على شخصيتنا الوطنية، وتجنّب تقليد الآخر دون وعي ولا تبصرّ، وقد ذمّ النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم صاحب هذه الذكرى العطرة، كل «إمّعة» وهو كل من لا رأي له ولا عزْم عنده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن أساؤوا أسأنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسنوا أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا)، وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن «الإمّعة» فقال: «الذي يقول أنا مع الناس، إنه لا أسوة في الشرّ». فالواجب الديني والوطني يحتّم علينا ان نكيّف سلوكنا الاستهلاكي حسب ما تقتضيه الضرورة الملحة ومصلحة المجموعة الوطنية وعاداتنا المجتمعية، دون انبهار بالغير ولا انسياق مع ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين.