مما حفلت به كتب الأدب العربي، ما بلغته أسرة البرامكة أيام الدولة العباسية من الجاه والسلطان وخاصة على عهد هارون الرشيد. وإذا كان جعفر البرمكي قد بلغ من الشهرة ما لم يبلغه والده يحيى ولا أخواه الفضل ومحمد باعتباره وزيرا مقرّبا من الرشيد، إلا أن ما بلغنا من اخبار الجود والكرم والأدب والذكاء عن الفضل يدل على عظيم مكانته وسعة نفوذه، ومن ذلك أنه خرج يوما للصيد والقنص مع خدمه وحاشيته فرأى أعرابيا على ناقة فقال: هذا الأعرابي يقصدني وأطلب منكم ان لا يكلمه غيري، ولما قرب الاعرابي من الموكب ظنّ أنه لأمير المؤمنين فسلّم بتسليم الخلافة. فقال له الفضل: اجلس أيها الاعرابي وانتسب وقل ما حاجتك؟؟؟ قال أنا من قضاعة وقد جئت بغداد قاصدا البرامكة الذين اشتهر فضلهم ومعروفهم في البلاد. فقال له الفضل: ومن تقصد منهم؟؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد. فقال له: إن الفضل لا يحضر مجلسه الا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والمناظرون للعلم. فهل أنت واحد من هؤلاء؟ قال: لا، قال: إذن فبأي ذريعة أو وسيلة تقدم بها على الفضل؟ قال: أنا قاصده لاحسانه وكرمه أوّلا وبيتين من الشعر ثانيا أمدحه بهما وأنال بهما من جوده واحسانه فقال الفضل: أنشدني البيتين لأرى هل يصلحان ان تلقاه بهما؟ فأنشد: قد كان آدم حين حان وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء ببنيه أن ترعاهمو فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء قال الفضل: فإن قال لك الفضل هذان البيتان أخذتهما من أفواه الناس فأنشدني غيرهما؟ قال: إذن أقول له: ملّت جهابذ فضل وزن نائله ...وملّ كاتبه احصاء ما يهب والله لولاك لم يمدح بمكرمة ... خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب قال الفضل: فإن قال لك هذا أيضا أخذته من أفواه الناس؟ قال عندها أقول: وللفضل صولات على مال نفسه ... يرى المال منه بالمذلة والعنا ولو أن ربّ المال أبصر ماله ... لصلّى على مال الأمير وأذّنا قال الفضل: فان قال لك الفضل: هذان البيتان مسروقان؟ قال حينها أقول: ولو قيل للمعروف ناد أخا العلا ... لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل ولو أنفقت جدواك من رمل عالج ... لأصبح من جدواك قد نفد الرمل فقال الفضل: ولو قال لك هذا أيضا مسروق ومأخوذ من أفواه الناس؟؟ قال: إذن أقول له: وما الناس إلا اثنان صبّ وباذل ... وإني لذاك الصبّ والباذل الفضل على أن لي مثلا كما ذكر الورى ... وليس لفضل في سماحته مثل قال الفضل: فإن قال لك أنشدني غيرهما فماذا أنت «قائل؟؟؟ قال: أقول له: حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد ... فقامت به التقوى وقام به العدل وقام به المعروف شرقا ومغربا ... ولم يكُ للمعروف بعد ولا قبل قال الفضل: فإن قال لك قد ضجرنا من لفظ الفاضل والمفضول فأنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم فما أنت قائل؟؟ قال أقول له: ألا يا أبا العبّاس يا واحد الورى .... ويا ملكا خذ الملوك له نعل إليك تسير الناس شرقا ومغربا ... فرادى وأزواجا كانهم نحل قال الفضل: فإن قال لك: أنشدني غير الاسم والكنية والقافية؟؟ وهنا نفد صبر الأعرابي وقال: والله لو استزادني بعد هذا لأقولن فيه أربعة أبيات ما سبقني اليها عربيّ ولا أعجميّ، ولئن استزادني بعدها لأجمعنّ قوائم ناقتي هذه وأفعلنّ بها ما أفعل وأرجع الى قضاعة خاسرا. وهُنا سقط الفضل على وجهه من شدّة الضحك وقال للأعرابي: أنا والله الفضل بن يحيى فأسمعني أبياتك الأربعة وسل حاجتك، فارتعد الأعرابي وقال: أقلني أيها الأمير، قال أقالك الله، هات الأبيات واذكر حاجتك.