بقلم الأستاذ: إبراهيم الهادفي من نعم الله على الإنسان أن يرزقه فكرا ثاقبا، وذكاء وقّادا وبيدهة حاضرة يستطيع بفضلها أن يُجنّبَ نفسه ما قد يعترض حياته من مشاكل وصعوبات ومواقف حرجة، فكثيرا ما يتوفقُ مثل هؤلاء إلى التخلص بدهاء وذكاءٍ من أعقدِ المواقف وأشدِّها خطرا على حياتهم بحكمة بليغةٍ أو بيت شعر رائق أو بجواب مُسْكتٍ حيث يحلّ العفوُ محلّ العقوبة والغنَى محل الفقر والعزّة والرفعَةُ محل الضَّعةِ والخمولِ. وفي الصور الآتية تبيان لأحداثٍ ومواقفَ خرج منها أصحابها من الشدّة إلى الرخاءِ بحسن تخلصهم وسداد رأيهم واتّساع أفقهم وصفاء قريحتهم. 1) كان الحجّاجُ بن يوسف الثقفي في إحدى جولاته قد انفردَ من عسكره وحاشيته وبقي وحيدا فلقيَ أعرابيّا وأرادَ أن يعرف رأيهُ فيه فقال له: يا أخا العرب ما تقولُ في واليكم الحجّاج؟ فقال الأعرابي: هو ظالم غاشم فقال الحجاج: لماذا لا تشكوهُ إلى الخليفة عبد الملك بن مروان فقال الأعرابي: هو أظلمُ وأغشمُ من الحجاج لعنةُ الله على الاثنين وهنا تلاحَقَ بالحجاج موكبهُ وعساكرهُ فتفطّنَ الأعرابي إلى أن محدثه هو الحجاج نفسهُ وأيقنَ بالهلاك لما عُرف عن الحجاج من بطشٍ وظلم وسفك للدماء فالتفت إلى الحجاج وقال له: السرُّ الذي بيني وبينك لا يطّلع عليه أحد إلا الله، وهنا ضحك الحجاج من حسن تخلّصه وأحسن إليه بدلا من عقوبة كانت متوقعة. 2) عُرفتْ المرأة الحرُوريّة بأنها كانت في المعركة التي وقعتْ بين الحجاج وابن الزُّبير تُحرض الناسَ على قتل الحجاج ورجاله ونهْب أمواله ولما وليَ الحجاج أمر بإحضارها وذكّرها بموقفها منه فلم تُنكرْ ذلك فالتفتَ الحجاج إلى حاشيته وقال لهم: ما ترون في شأنها؟ فقال جميعهم عجّلْ بقتلها فضحكت المرأة فاغتاظ الحجاج وقال لها: ما الذي أضحكك وأنتِ تستقبلين الموت؟ فقالت: وُزراءُ فرعون خير من وُزرائك لأنه استشارهم في موسى فقالوا (أرجهِ وأخاهُ) أي أنظرْهُ إلى وقت آخر وهؤلاء ينصحونك بتعجيل قتلي وأمام هذه المقارنة الذكية ضحكَ الحجّاج واستحسن فطنتها وحُسن تخلصها فعفا عنها وأمر لها بصلة وأطلقها. 3) مدحَ الشاعرُ ابنُ هرمة الخليفة المنصور بقصيد نال إعجابه واستحسانه فأرادَ الخليفةُ أن يُجازيهُ وقال له: سلْ حاجتك فقال «وكان سكّيرا» حاجتي أن تكتب إلى عاملك بالمدينة وتوصيه بأن لا يقيم عليّ الحدَّ إذا وجدني سكران، فقال له المنصور هذا حدّ من حدود الله لا سبيل إلى تركهِ، فقال ابن هرمة ليس لي حاجة غير هذا فقال الخليفة لكاتبه: أُكتب إلى عاملنا بالمدينة (من أتاك بابن هرمة سكران فاجلدهُ ثمانين جلدة واجلِدْ الذي يأتيك به مائة جلدة) فكان الشرطة يمرون به وهو سكران فينصرفون عنه ويتركونه ويقولون: من يشتري ثمانين بمائة؟فالخليفة المنصور بحيلته هذه لبّى طلب الشاعر ولم يخالف حكم الشريعة في آن. 4) لمّا ولي هارون الرشيد الخلافة فكّر أحدُ الأعراب الشعراء في حيلة ينالُ بها جائزة منه فقصد مقرّ الخلافة وقال للحاجب أتيتُ برسالة خاصة إلى أمير المؤمنين فقد أتاني آتٍ في المنام وأمرني بإيصالها إليه ولمّا سُمحَ له بالدخول قال له الرشيد هاتِ الرسالة فقال ها هي: توارثَتْ الخلافةُ في قُريش تُزفُّ إليكما أبدا عروسا إلى هارونَ تُهدى بعد موسى تميسُ ومالها أن لا تميسا فطربَ الرشيدُ بسماعه هذه الرسالة الشعرية المناميّة وأعطى الشاعرَ عطاء جزيلا وضحكَ من طريف حيلته واختلاق خياله وبلوغه حاجته.