قصر مزوار (باجة) «الشروق): هي شابة عزباء في مقتبل العمر تجلس على حافة حوض الحنفية العمومية ترسل نظرات دامعة على بعد بضعة أمتار منها الى مقطع السكة الحديدية أين رحل والدها وعائلها الوحيد تحت عجلات «قطار الرعب» الحديدية منذ أيام على مستوى ضيعة سيرى في منطقة قصر مزوار من معتمدية باجة الشمالية. ولأننا وصلنا في نفس توقيت الحادث فقد أثار مرور القطار بدويّه وصفاراته رعبا في نفوسنا ونحن نستعد لتخطي السكة حتى ندرك لمياء عند موقع الحنفية فتروي لنا تفاصيل ما وقع. دون مقدمات أو عودة الى تفاصيل الواقعة قدمت إلينا بطاقة زرقاء اللون تؤكد أن عم رابح البالغ من العمر 77 سنة كان يعاني من إعاقة في السمع، سألتنا عن ذنب أهالي ضيعة لم يصل الماء الصالح للشرب الى منازلهم بعد فيضطرون الى قطع السكة صباحا مساء لجلب الماء من الحنفية العمومية. تعود لمياء بذاكرتها الى يوم الواقعة لتحدثنا عن آخر أربع قبلات رسمها والدها رابح على خدّيها على الساعة العاشرة صباحا من ذلك اليوم ووافقت القبلات رعشة في جسد العم رابح لم تعهدها لمياء فيه وقال لها: «سامحيني بنيّتي عذّبتك»... في نفس اليوم تتذكر لمياء أن والدها قد زار الحلاق وتجمّل. ثم توجه نحو الحنفية العمومية حوالي الساعة الثانية بعد الزوال ليتوضأ ويؤدي صلاة العصر في مسجد القرية... وتتذكر لمياء أنها سقطت أرضا مغشيا عليها لما بلغها نبأ رحيل والدها الى الابد تحت عجلات قطار الثالثة مساء إلا ربع القادم من تونس العاصمة في اتجاه باجة... ولا تتذكر لمياء شيئا من تفاصيل ما حصل قبيل الاصطدام ولحظته. صياح ودعوات وما كادت محدثتنا تنهي الجزء الاول من حديثها حتى التحق بنا كهل يدعى محمد علي الزارعي كان الشاهد الوحيد على الحادث وكان ساعتها على بعد مائتي متر تقريبا من مكان الاصطدام مما منعه من إدراك العم رابح وإبعاده عن السكة لتفادي ما حصل ونفس المسافة لم تمنعه من متابعة المشهد من بدايته الى نهايته... تحدث محمد علي قائلا: «كان القطار يطوي الارض طيّا ويرسل صفارات إنذار ألفناها، التفت الى موقع «الحنفية» في حركة لا إرادية فإذا القطار قد أطلّ من المنعرج ولم يعد يفصله على العم رابح سوى بضعة أمتار... كان العم رابح قد أدرك الخط الاول من السكة وكان السائق يطلّ من نافذة غرفة السياقة يصيح بأعلى صوته طالبا من العم رابح الابتعاد ولا يكف عن إطلاق صفارات الانذار ولكن العم رابح لا يسمع بموجب الاعاقة وصياح السائق وصفارات القطار ودعواتي بأن يلتفت العم رابح يمنة ولم تجد نفعا ليدركه القطار قبل أن يتخطّى الخط الثاني للسكة الحديدية فاختفى العم رابح تحت القطار». لا معين... ولا عائل وقبل أن نودع لمياء حدثتنا بشيء من الحسرة عن ظروفها قبل الحادثة عندما كانت تصارع المتطلبات الدنيا للحياة رفقة والدها المعوق بالعمل الفلاحي البسيط في ضيعات وحقول فلاحي الجهة فهي تسكن ووالدها منزلا ريفيا بسيطا لا غنم فيه ولا حتى دجاج (تفنيد الاشاعة التي تقول أن والدها ذهب تحت عجلات القطار ضحية لرعيه غنما قرب السكة)... وحدثتنا عن ظروفها بعد أن صارت وحيدة لا معين لها ولا عائل آملة في وقوف السلطات الجهوية الى جانبها خاصة وأنها تلقّت منهم وعودا صادقة بجراية قارة تؤنسها في وحدتها. سلكنا طريق العودة... التفتنا فإذا في آخر المسلك منعرج يقع بين مرتفعين من الارض يحجبان الرؤية لنفهم أنه «منعرج الموت» مادام القطار المطل منه أكثر من مرة في اليوم قطار رعب لسكان ضيعة يجبرون صباحا مساء على تخطي السكة لادراك الحنفية العمومية على بعد مائة متر تقريبا من ذلك المنعرج... قطعت لمياء رحلتنا مع هذا المشهد وهي تدعونا للنظر في مكان الحادث حيث بقايا من ذكرى والدها على حد تعبيرها فقدّرنا مدى وقع ما حدث على نفسيتها وفهمنا أن نسيان ما وقع قد يستوجب مدة زمنية أطول من المتوقع بالنسبة الى هذه العزباء اليتيمة.