من أشهَرِ المدن الفارسية القديمة التي شاع اسمها على ألسنة العرب في أحاديثهم وكتاباتهم شعرا ونثرا، مدينة قم. وتعود شهرتها لدى العرب إلى الخبر الطريف الذي يُروى عن السبب التافه الذي عُزل من أجله قاضيها منذ أكثر من ألف سنة، فقد روى ذلك «ياقوت الحموي في معجم البلدان» فقال: (..ولقاضي قم قال الصاحب ابن عباد: أيها القاضي بقمْ قد عزلناك فقمْ فكان القاضي يقول، إذا سئل عن سبب عزله: أنا معزولُ السجعِ من غير جرم ولا سبب.) ونلاحظ أن ذلك القاضي لم يكن دقيقا في جوابه، والصواب أنه معزول الوزن والقافية والجناس التام بين «قم» اسم المدينة و«قم» فعل الأمر من قام، من غير جرم ولا سبب» ولعل للصاحب ابن عباد سببا غير ما ذكر القاضي المعزول دفعه إلى عزله ولكنه غطّاه بالقافية أو السجع. والحقيقة أن الفُرس القدماء لم يُسَمُّوا هذه المدينة «قم» على وزن فعل الأمر العربي من فعل «قام» بل اختزله العرب من اسمه الفارسي، فقد قال ياقوت عن تلك التسمية: «وكان بدء تمصيرها في عهد الحَجاج بن يوسف سنة 83 ه..وكانت سبعَ قرى اسم إحداها كُمُنْدان...وصارت السبعُ قرى سبعَ محالّ بها، وسميت باسم إحداها وهي (كمندان) فأسقطوا بعض حروفها، فسميت بتعريبهم «قمًّا»، وقد عرّفها ياقوت بقوله: (قم بالضم، وتشديد الميم، فارسية: مدينة تذكر مع «قاشان»...وهي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها، وأول مَن مصَّرها طلحة بن الأحوص الأشعري، وبها آبار ليس في الأرض مثلها عذوبة وبردا، ويقال إن الثلج ربما خرج منها في الصيف، وأبنِيتها بالآجر، وفيها سراديب في نهاية الطيب، ومنها إلى الرَّيِّ مفازة سبِخة، فيها رباطات ومناظر ومسالح»...وهي كبيرة حسنة طيِّبة) هذه مدينة (قم) كما ذكرها القدماء أما أنا فقد دعيت إلى حضور معرض الكتاب الذي أقيم بطهران عاصمة إيران في أواسط سنة 2001، وحظيت بزيارة مدينة «قم» التي طالما قرأت عنها في كتب التاريخ والجغرافيا والأدب العربي وقد صادف أن أديت صلاة الظهر بمسجدها الشهير الكبير، ورأيت المصلين يقبلون على الصلاة فيه زرافات ووحدانا رجالا ونساء في خشوع وخضوع. وهذا أمر مألوف في كافة بلاد العالم الإسلامي، ولكن الشيء الذي لم أر له مثيلا في كافة البلاد الإسلامية هو تلك المكتبة العديمة المثال التي جمعها صاحبها بطريقة عجيبة، ذلك أنه كان يصوم معظمَ أيام حياته تعويضا عمّا فات آباء وأمهات بعض من لم يتمكنوا من الصيام في حياتهم، وكان يصلي، إلى جانب أداء صلواته المفروضة، تعويضا عمّن لم يتمكنوا من أداء صلواتهم في حياتهم، مقابل أجر يشتري به الكتب باللغتين العربية والفارسية، فكون بهذا العمل الخيري الإنساني مكتبة زاخرة بالكتب، إلى جانب كسب الأجر بالصوم والصلاة وجمع الكتب لطلاب العلم وحفظها من التلف والضياع، هذا العالم هو السيد شهاب الدين المرعشي النجفي الذي روى السيد عادل العلوي في كتابه «قبسات»من حياة هذا الرجل قصته في تكوين هذه المكتبة الفاخرة، وتحدث فيه عنه وعما قام به من أعمال الخير من صيام وصلاة عن أشخاص ذكر أسماءهم على الصفحات الأولى من الكتب التي تكتظ بها مكتبته العامرة، حتى أصبحت من كبريات المكتبات العالمية التي تزخر بالكتب المخطوطة المطبوعة، وقد حظيت في تلك الزيارة بمقابلة أحد أبنائه وتجولت معه فيها، فرأيت العجب العُجاب، الذي يستحوذ على الألباب، مما لم تره عين ولا اشتمل عليه كتاب. والملاحظ أن الأدب العربي القديم مليء بأخبار ملوك الفرس الأكاسرة، وبأقوال حكمائهم وشعرائهم الكبار الذين يستحقون منا أكثر من وقفة لإلقاء بعض الضوء على آثارهم الباهرة، التي نرجو أن تكون لنا عودة إليها وإلى بلاد فارس التي ذكرها الشعراء العرب في أشعارهم، ونكتفي هنا بالتلميح إلى «سينية البحتري» التي وصف فيها إيوان كسرى والرسوم التي رآها على جدرانه في زيارته الأولى لها في شبابه أيام عزها، وعند كهولته أيام بؤسه وخرابها، ويكفي أن نذكّر أيضا ببعض أشعار أبي نواس في وصف الكؤوس العسجدية التي كانوا يعاقرون فيها بنت الكرم، ويقيسون بها كميات بنت الكروم، وعصير السحاب، والتي لعلها أوحت لعمر الخيام بعض رباعياته التي تُرجمت إلى العربية شعرا ونثرا وإلى معظم لغات العالم مصحوبة بنمنمات مرسومة أو رسوم منمنمة لا يداني الفرسَ فيها أحد.