فأنا أقرأ وأشاهد الحوارات مع النابغة الهداف الذي لا تخطئ تصويباته وعلى الخبير في الدفاع (عن الشباك لا عن الأوطان) والزعيم في الذود عن الحدود (حدود مرماه طبعا) والتي تقاس بالمتر وتحترم دوليا فقط فوق الملاعب، وتماسك خطوط الدفاع والهجوم والوسط والميمنة والميسرة والجناح الطيار والقيادة واستبسال الأبطال ورفع فوق الأعناق وتهليل وتكبير بانتصارات لم يسبق لها مثيل وهزائم كارثية هدّت كثيرا من البيوت وفسخت عديد العقود، فأحسب أن الحرب قامت وانتهت وأنا نائم، وعندما أستيقظ وأعدّل جلستي لترشف قهوتي يحلو لي تصفح جريدتي كأي عاقل متّزن لا يؤمن باليمين ولا باليسار فأجد كتابات أول ما أبدأها من الخط الدفاعي حسب ما نمت وأصبحت عليه وحلمت به فأجد عبد الرؤوف المقدمي فيهاجم المتخاذلين والمتقاعسين ويندّد بالبيوعة لا ل«الماتشوات» وإنما للأمة وضميرها ومكاسبها ومقدراتها ومصالحها السياسية والوطنية والقومية وحدودها الجغرافية وتاريخها الممسوخ. فأنتقل الى وسط الميدان فأجد عبد الحميد الرياحي هاجت رياحه وعواصفه ملّ المراوغات والتسويف واللعب الفردي فهو يدور في فلك لم يجد له مخرجا فهذه الممانعة تستهويه لإيمانه بالقيم الثابتة والحقوق الشرعية وحق تقرير المصير لكن عدم تماسك الخطوط وتباعد الآراء كسّر عواصفه على كاسرات الرياح وإن كانت من سعف النخيل، لأن قضايا الأمة أعتى من الكلمات ولم يعد ينفع معها إلا إعصار عصر قلبه لزمن أسفا وحزنا على أوضاع أمته وضياع حقوقها وهو الأعلم بما يدور في الكواليس. فأهرب الى الخطوط الخلفية لعلّي أجد ضالّتي أو عطيتي عند حياة عطية فأفرك عيناي من جديد، وأغرق في عصارة من الأفكار سهرت عليها الليالي وضعف منها البصر لتقدم لنا ما أفرزته المفاوضات العقيمة والوعود الكاذبة فتحذر مما ينتظر هذه الأمة من مخاطر في ظل العولمة والتكتلات وعمل العصابات ومافيات سياسية لا ضمير لها لعل ضمير البعض يصحو قبل أن يجرفه الطوفان لكن هل من مصرخ؟ أحاول الهروب على الأجنحة على طريقة جهابذة الميادين والخبراء المشهورين ممن أجورهم بالملايين فأجد فاطمة الكراي ومسعود الكوكي والعديد من المثقفين غير المشهورين لخطإ استعمالهم لرؤوسهم وما بداخلها، أجدهم وقد اكتووا بنتائج الهزائم والنتائج السلبية لعالمنا العربي فلا يستطيعون إقالة مدرب ولا الالتجاء لحكم أجنبي لإيمانهم الراسخ وبحكم التجربة ان الحكم الأجنبي في قضيتنا لم يكن أفضل من حكامنا المحليين فيكثر جريه وصولاته وجولاته من بلد الى آخر وينزل بأفخم النزل مع الحراسة المشددة ويصافح ويصوّر وعندما يعود الى موطنه يتذكر كل شيء الا الملف الذي جاء من أجله قد نسيه ببلدنا لكثرة الحفاوة وحرارة الاستقبال والتوديع ويطول بنا الانتظار للتحكيم النزيه. ولعلي لا استطيع الوقوف على انجازات الاخوة الصحفيين في كل الميادين ولا أعطيهم حقهم مهما كتبت عنهم ليقيني انهم أكبر من أن أكتب عنهم وهم من هم جفّت أقلامهم ومآقيهم من سهر الليالي وقُضّتْ مضاجعهم لمجرد خبر او غزو أو فضيحة فلا يغمض لهم جفن عند احتقان الشعوب والنعرات القبلية والشطحات الدولية والمؤتمرات الشكلية فمنهم من قضى نحبه ومنهم ينتظر من أجل خبر او صورة ينقلها وكم من شهيد لم تسجله سوى نقاباتهم وعرائض التنديد وكم منهم من تعرض للضرب والركل والإهانة على مرأى ومسمع من الجمعيات والمنظمات العالمية ولم يحرّك من أجلهم لا خط الدفاع ولا الهجوم على غرار إخوتنا في الملاعب. فهم جنود خفاء وعلن هم ممقوتون لأنهم يعرفون الحقيقة ويرون ما لا نرى ويسمعون ما لا نسمع ويستعملون ما لا يستعمل غيرهم من عصارة فكر وحواس وعواطف جيّاشة وتضحيات جسام لا يقدر عليها إلا من خاض بحر الإعلام. حياتهم المهنية أطول من الذين يلهثون وراء الجلد المدوّر يحملون هموم الأمة ويحتفظون بذاكرتها ويحلمون بغد مشرق لكننا لا نوفيهم حقهم، فهل نعلم عن نشأتهم وفكرهم وهمومهم سوى ما تفيض به خواطرهم فهل حاورناهم في كل قضايانا كما نحاور الآخرين كلما فازوا أو أخفقوا؟ هل استفدنا من عصارة أفكارهم ونظرياتهم؟ هل سنذكرهم كما نذكر العديد ممّن أسهمهم لا تمارى وأجورهم لا تقارن أم هم حبر على صفحة تنتهي بنهاية اليوم فتصبح جريدة «بايتة» لا تصلح إلا لمسح البلور هل مررت يوما أمام مقهى او نزل او ملهى فقيل لك هذا ملك الصحفي الذي لا يشق له غبار حيّا كان أم ميّتا؟ أم كتب الله عليهم الفقر في جيوبهم والغنى في عقولهم. هذه النخبة لا تعرف إلا بعد ان يجفّ العنب وتسقط أقلامهم من أناملهم فهل نستطيع إكرامهم وتخليدهم ولو في قراهم النائية وأنهجهم الضيقة بتسمية على الجدران او نعلي شأنهم وأسهم بتسمية منشآت اخبارية وصحفية ودور طالما بيّتوا ورابطوا تحت حيطانها لالتقاط خبر؟ فالعاصمة لازالت تعجّ بالأنهج الغريبة عن ثقافتنا وبقي منها العديد الذي يرمز لحقبة لعينة من الاستعمار مثل نهج François Boucher, François Thorrand, rue de fusil وأنهج أخرى إذا قرأتها استعنت بالنابغة google وLarousse لشرح معانيها وتاريخها وفضلها على البلاد فلم أجد الا النزر القليل والنفع العقيم لما قدّموا فأغمس رأسي في الصفحات وأقلبها وأقول طوبى لمن علت قدماه على رأسه. لا يخفى على أحد أن دور الاعلاميين كان ولا يزال مقياسا لنضج ذاك الشعب أو الأمة، لكن الزمان تغيّر والوقت تبلّد، حتى أصبحنا لا نقوم على حديث الصباح ولا نمسي على حكَم وعبَر بل أصبح الكلام في الصباح وفي المساء عن الأقدام وما قدّمت والموضة وما أنجزت والحلويات وصنع المرطبات والمأكولات يغزو كافة وسائل اعلامنا المرئية والمسموعة والمكتوبة، ولا ضير في ذلك فهذا كلّه مثقل على الثقافة والمعرفة، أما أن تعلو وتناطح السحاب أسهم من يستعمل ساقيه لتدوير كرة «هي من ربي مدورة» فذلك لعمري يحزنني، فأنا وأنت أصبحنا من حيث لا نريد، نعرف عن اللاعب أو «اللاعيب» كما يسميه اخوتنا في المشرق كل التفاصيل عن حياته الخاصة والعامة والعالمية لأنه أحسن استعمال قدميه ونأى برأسه فلم يستعمله إلا نادرا خوفا من إفساد تصفيفة شعره وال«جال» لا يتأقلم مع تراب الملاعب غير المعشبة، أو إنه لم يتعود على استعماله ولا استعمال ما بداخله.