كان العزم القوي للرئيس التونسي زين العابدين بن علي من أجل بلوغ شعبه وبلاده مصاف البلدان المتقدمة عاملا رئيسياً في دفع التجربة الديموقراطية التونسية، وإكسابها الثراء الفكري والسياسي والمجتمعي المطلوب حتى يتعود الشعب من خلال مكوّناته المدنية والسياسية على ممارسة الحكم والتشبّع بمبدإ التداول عليه. فقد توفق الرئيس بن علي في أن يجعل هذا المسار حافلاً بالمكاسب والنجاحات التي عبّر العديد من الملاحظين في العالم المتتبعين للشأن السياسي الدولي عن إعجابهم به وتقديرهم للإضافات التي حققتها تونس للفكر السياسي في مجال إرساء قواعد التعامل بين مكوّنات مجتمع صاعد ومثابر في بناء تجربته المتميّزة في الحكم وتقرير المصير. ولقد تمكنت تونس بفضل الخيارات التي اعتمدها الرئيس زين العابدين بن علي خلال سنوات التحوّل، من أن تعيش تمشياً متميزاً في المجال الديموقراطي، كانت وما تزال أبرز ملامح نجاحه تكمن في صموده وقدرته على التقدّم والتطوّر من دون انتكاس أو تراجع ودون ما تنكر لإنجازات الاستقلال ومقوّمات السيادة التي تحققت منذ خمسين عاماً. ولئن اعتبرت الانتخابات الرئاسية والتشريعية دائماً مناسبة متجددة لتعميق الممارسة الديموقراطية، فلقد كان الإصلاح الدستوري الذي أرسى قواعد جمهورية الغد، فرصة تاريخية عبّر خلالها الشعب التونسي من خلال استفتاء شعبي حرّ ومباشر عن انخراطه التلقائي في التمشي الديموقراطي وفي المسار التعددي الذي أقره الرئيس بن علي ونجح في تعميقه في الوعي الوطني الجماعي للتونسيين. فالانتخابات الرئاسية، التي رافقتها في تونس في اليوم نفسه انتخابات تشريعية عام 2009، جرت كما ينصّ على ذلك الدستور بصورة مباشرة وحرّة وسرية، وكانت محطة وطنية شكّلت فرصة تاريخية ليعبّر خلالها الشعب عن إرادته من جهة في التمسك بالخيارات الجوهرية للتحوّل الحضاري للسابع من نوفمبر، ومن جهة أخرى في دعم سيادة الشعب ومزيد الالتفاف حول النظام الرئاسي وتحصينه شعبياً من خلال تجذير مقوّماته وإعلاء قيمه ومؤسساته السياسية والدستورية. وقد أعيد انتخاب الرئيس بن علي خلال هذه الانتخابات لفترة رئاسية رابعة مدتها خمس سنوات وذلك في ثالث انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ البلاد شارك فيها أربعة مترشحين. وحقق الرئيس زين العابدين بن علي فوزاً باهراً بحصوله على نسبة 89 فاصل 62 في المئة من جملة الأصوات المصرّح بها على المستوى الوطني ومراكز الاقتراع بالخارج. وحسب متابعين للشأن التونسي فإن هذا الفوز «الباهر» يعكس مدى الشعبية التي يحظى بها الرئيس بن علي لدى أبناء بلده ويؤكد إيمانهم باختياراته الاستراتيجية التي تهدف إلى الارتقاء بتونس الى مصاف الدول المتقدمة. ودون مبالغة في شيء يمكن القول إن الإصلاحات التي عاشتها تونس خلال العشريتين الماضيتين هي التي مهّدت الطريق أمام الاستحقاق الانتخابي التعدّدي الأخير ليعيش من خلاله التونسيون موعداً سياسياً ديموقراطياً في طور جديد من تاريخ تونس الحديثة. وتعكس نسبة الإقبال على مراكز الاقتراع للانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة والتي بلغت 89,40% حرص التونسيين على المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية للبلاد وتصريف شؤونها في ظل نظام جمهوري يولي المؤسسات مكانتها ويوفر أسباب الديموقراطية المسؤولة وعلى أساس سيادة الشعب، كما أن هذه المشاركة العالية تقيم الدليل على أن جميع مكوّنات المجتمع التونسي بمن في ذلك الشباب الذين استفادوا من خفض سن الاقتراع الى 18 سنة قد بلغوا من النضج والوعي ما يؤهلهم الى لعب أدوار متقدمة في مسار البناء الحضاري ورسم السياسات التنموية للبلاد. والواقع أن الشعب التونسي وهو يجسم هذه الإرادة إنما يعبّر عن تمسكه بثوابت المنهج الذي جاء به الرئيس بن علي والذي يقتضي أساساً وبصورة محورية تحرير الإنسان التونسي عبر تمكينه من اعتماد الممارسة الديموقراطية وتطوير مجال التعددية الفكرية والمجتمعية والسياسية للارتقاء بالواقع وتحقيق الرقيّ في المستقبل، ذلك أن الرئيس بن علي قد بنى منهجه الحضاري على قيمة الحرية التي أتاحها ووفرها لشعبه على المستويين الفردي والجماعي. ونظراً لأن حرية التعبير تحتل حجر الزاوية في نجاح وتقدم الفكر الديموقراطي وممارسته، فقد حرص الرئيس بن علي على تكريس هذا المبدإ فكراً وممارسة، وذلك بإعلاء مقوّماته وتطوير آلياته. وكان من أبرز النجاحات التي تحققت في هذا المجال توسّع فرص وفضاءات التعبير لفائدة الأحزاب السياسية والمكوّنات المجتمعية. وقد كان الاستفتاء الشعبي الذي مثّل التفافاً شعبياً وانخراطاً جماعياً حول مبادئ الإصلاح الدستوري الجوهري الذي أراده الرئيس بن علي مقوماً أساسياً لجمهورية الغد، هو تعبير حقيقي عن ممارسة الشعب التونسي لهذه الحرية التي أصبحت إحدى مميّزاته الرئيسية في عهد التغيير. ذلك الإصلاح الذي لم يقتصر على إرساء دولة القانون، وتعزيز المؤسسات الدستورية وإدراج مبادئ وقيم حقوق الإنسان صلب الدستور، لكنه جاء مكرّساً للحريات العامة والفردية، وجعل منها مقوّماً محورياً من مقوّمات حياة الفرد والمجموعة. فحرية التعبير وحرية الصحافة هي من الخيارات الجوهرية للرئيس بن علي وتوجّهات تونس الحديثة، بل لقد ارتقى بها الرئيس التونسي بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة الى مرتبة إضافية بأن جعل منها مقوّماً أساسياً من مقوّمات حقوق الإنسان في تونس. على أن الرئيس التونسي لم يقتصر في بلورة وإشاعة الحرية كقيمة أساسية من قيم التغيير على حرية الصحافة والتعبير، بل جعل من الحرية الشاملة الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء المجتمعي والحضاري الذي تعيشه تونس اليوم. فتكوين الأحزاب أصبح يتّسم بالحرية المنوطة بإرادة الأطراف السياسيين في البلاد بشرطين، وهما ألا تقوم الأحزاب على أساس ديني أو لغوي أو جهوي حماية للمجتمع من آفات الفكر العنصري والكراهية، وأن تعترف بمبادئ قانون الأحوال الشخصية، ذلك المكسب التاريخي الذي كانت تونس سباقة فيه على مختلف البلدان العربية والإسلامية وحفاظاً على حقوق المرأة والطفولة والتكوين الأسري السليم. كما أفردت الجمعيات لأول مرة في تاريخ تونس الحديث بقانون مستقل ينظم تكوينها على أساس حرية الأفراد في اختيار بعضهم البعض واختيار مجالات نشاطهم وصيغ تمويلهم بما يعزز النسيج المجتمعي الذي شهد طفرة حقيقية خلال السنوات الماضية جعلت منه لا فقط جزءاً هاماً من المكوّنات المجتمعية في البلاد، ولكن أيضاً عنصراً فعّالاً في تحقيق التنمية وطنياً ومحلياً. على صعيد سياسي أيضاً، شهدت الحريات الفردية والجماعية في البلاد تعزيزاً وتطويراً لا سيما على المستوى التشريعي، خصوصاً منذ الارتقاء بها الى مستوى الدستور. فلقد أصبحت حرية الفرد في تصرفه واختياراته واختيار نمط حياته، وبالتالي حريته في اختيار ممثليه في المجالس المنتخبة والهيئات الدستورية، أكثر بروزاً في الحياة العامة. وتوسّعت مجالات هذه الحرية، خصوصاً في المجال الانتخابي بمقتضى تعديل دستوري أوجب الدخول الى الخلوة على الناخبين حتى يجسم المبدأ الدستوري في الحرية والسرية للعملية الانتخابية من جهة، وحتى يكون للمواطن الناخب حقه في ممارسة حريته بلا رقيب عليه إلا ضميره ووعيه المدني في الاختيار من بين المترشحين سواء للانتخابات الرئاسية أو التشريعية أو المجالس البلدية أو غير ذلك من المجالس والهيئات. وقد تعزز كل ذلك بإقرار المبدإ الدستوري القاضي بحماية المعطيات الشخصية للفرد والذي تم إدراجه ضمن الدستور بمناسبة الإصلاح الجوهري الذي صادق عليه الشعب في الاستفتاء الوطني العام. وهكذا وبعد أن أرسى الرئيس بن علي مقومات الحرية كقيمة أساسية من قيم التحوّل، حولها أيضاً الى مقوم جوهري من مقومات الفعل السياسي وركيزته الأساسية في ما يتعلق بممارسة الشأن العام، خصوصاً ما يتعلق بالممارسة الديموقراطية وتوسيع التعددية في البلاد التي أبهرت العالم بمدى تطوّرها وقدرتها على ضمان توازنها رغم الارتباك الذي يهدّد عدداً كبيراً من دول العالم اليوم بفعل المتغيرات المتلاحقة المنعكسة سلباً على الجوانب السياسية والاقتصادية والفكرية والإيديولوجية. () باحث في الشؤون الدولية (لبنان)