انّ هذا العمل الجديد «يحيى يعيش» لا يختلف من حيث أساليب الاخراج، وطبيعة الأسئلة عن بقيّة أعمال الجعايبي الأخرى. فمسرح هذا الرّجل ظلّ في مختلف تجليّاته، مسرحا متوتّرا، غاضبا، الشخصيات فيه تقف على شفا الجنون أو الموت، باحثة عن عزاء لا يكون. غير انّ الامر الذي ينبغي تأكيده انّ الجعايبي يعود، في هذه المسرحيّة، الى المسرح السياسي كما استتبّت مقوّماته عند بسكاتور وبرشت، أي يعود الى المسرح بوصفه خطابا ناقدا، رافضا، غاضبا لا يهدهد المتفرّج بقدر ما يربكه، يبدّد طمأنينته، يدفعه الى وضع كلّ شيء موضع مساءلة، ونظر. فليس غريبا بعد هذا أن نشاهد ظلال المشرح الملحمي البرشتي تتلامح في فصول هذه المسرحيّة ومشاهدها، فالجعايبي قد استحضر الكثير من تقنيات هذا المسرح وطرائق تعبيره بل ربّما استنسخ العديد من انجازاته الفنيّة دون تطوير أو تحوير لكن هذا لا يمنعنا من القول انّ المسرح مازال لدى الجعايبي «مختبرا» مع كلّ ما تنطوي عليه هذه العبارة من معاني البحث والحفر والتنقيب، فلا شيء قد استقرّ، ولاشيء قد استتبّ كلّ شيء الى تحوّل وتغيّر مستمرين. صحيح أنّ هناك ثوابت في هذا المسرح لم تتغيّر: من ذلك توظيف طاقات الممثّل الكامنة توظيفا كاملا حتّى يتحوّل هذا الممثّل الى «مصدر ضوء روحيّ» على حدّ عبارة كروتفسكي. قادرا على غزو القاعة كلّ القاعة وملئها بجسده وصوته وحركته. من هذه الثوابت أيضا تحويل فعل التمثيل الى فعل مجابهة ومواجهة، مع كلّ ما توحي به العبارات من معاني القسوة والشدّة ومن تعامل المخرج مع الممثّل وقد اعترف بذلك الجعايبي قائلا: «نعم أنا قاس مع الممثّل» ليستدرك بعد ذلك قائلا: «لكن في الحقيقة لست أنا القاسي بل المسرح والمهنة المسرحيّة هي القاسية...المسرح له طقوسه وقدسيته فأمّا أن تحفر عميقا في شخصيّة الممثّل لتصل الى الصناعة المثلى وامّا أن تتخلّى عن المسرح... الصحراء لا يمكن أن تقطعها في نصف ساعة انّها مسار طويل من القسوة والآلام والصبر وذلك هو المسرح». وتستمرّ هذه القسوة والشدّة في تعامل المخرج مع المتفرّج، فكلّ ما في هذا المسرح «يزعج» المتفرّج ويربكه، ويدفعه الى أن يبقى طوال مدّة العرض يقظا، ومستنفرا، وحذرا، ينظر من حوله في ارتياب وتوجّس. لكن أهمّ الثوابت تظلّ «جماليّة» العرض والاخراج. مسرح الجعايبي عيد من أعياد العين والسمع والروح: كلّ مشهد من مشاهده لوحة فنيّة تشدّ المتفرّج الى «عناصرها الجماليّة» قبل أن تشدّه الى شيء آخر خارج عنها كأنّ هذا المخرج « يقطّر» المشاهد تقطيرا، يتخلّى عن الزوائد والهوامش ولا يبقي الاّ على الجوهريّ أي على الجماليّ المحض. لكن رغم الاقرار بكلّ هذه الثوابت فنحن نريد أن نشير الى أنّ « المضمون» في « يحيى يعيش» قد هيمن على المسرحيّة، وسيطر على كلّ مشاهدها حتّى أنّ المتفرّج قد اقتصر على تلقّف لغة النصّ وأهمل لغات الخطاب المسرحيّ الأخرى. وربّما تأوّلنا ذلك بإصرار المخرج على لفت الانتباه الى «النصّ» أكثر من اصراره على لفت الانتباه الى «أساليب العرض» ولا أدلّ على ذلك من المقالات التي كتبت حول هذه المسرحيّة والتي قلّما التفتت الى «جماليّة العرض» أو الى مرجعياته الفنيّة...هذه المقالات اكتفت بالحديث عن دلالات المسرحيّة السياسية، وكأنّ المسرح نصّ، وكأنّ سؤال المسرح سؤال سياسي فحسب ! ولا شكّ أنّ سيطرة النصّ على المسرحيّة هو الذي وجّه هذه المقالات وهو الذي سوّغ احتفاء الجمهور العريض بهذه المسرحيّة. إنّ المتتّبع لمسيرة فاضل الجعايبي المسرحيّة يلحظ أنّ هذا الرجل قد عاد، بأساليب جديدة ومقاربات فنيّة مختلفة، الى بداياته البرشتيّة، الى مسرح يدور حول السؤال السياسي، الى التغريب بوصفه الطريقة المثلى التي تتيح للمتفرّج أن يحكم قبضته على الواقع قصد نقده، الى الخشبة باعتبارها منبر نقد. وربّما كانت هذه العودة اعلانا عن مرحلة أخرى في مسيرة الرجل يمكن أن نسميّها تجاوزا للمرحلة البرشتيّة الجديدة أو المرحلة البرشتيّة الثانيّة.