بقلم: محمد الغزي عندما دعيت إلى الأردن للحديث عن شعريّة النص المسرحي لم أجد أفضل من مسرحيّة «آخر ساعة» التي كتبتها ليلى طوبال وقام بإخراجها عزالدين قنون لتكون محور المداخلة التي قدّمت . فهذه المسرحية ظلّت، منذ أن شاهدتها في عروضها الأولى، حاضرة في الذاكرة والوجدان بلغتها واسلوب عرضها والأسئلة التي انطوت عليها. تنطلق هذه المسرحيّة من صوتٍ يهتفُ بالبطلة «نجمة» أنّ الموت سيطرق بابها بعد ساعة .... ساعة واحدة هي كل ما تبقى من حياتها الزاخرة بالصّور والذكريات والوجوه...لهذا وجب أن تُرتِّبَ لحظاتِها الأخيرة، أن تستعِدّ للعبورِ إلى الضفةِ الأخرى. هذه المقدّمة التي تحيلُنا على الكثير من الأعمال الأدبيّة والمسرحيّة كانت مفتتح الأحداث يتناسَلُ بعضها من بعض. لكنّ الأحداث هنا لا تجري في الخارج فحسب، وإنّما تجري في الدّاخل، في أعماق ِ نجمة وهي تنتظر الموت أو ترجئهُ، أو تتناساه... تستعيد نجمة، خلال فصول المسرحيّة، ذكرياتها البعيدةِ: ذكرى الأب الذي اختفى، وذكرى الحبيب الذي فتكَ به داءٌ عضالٌ، وذكرى الأخ الذي توَسلَ بالموسيقى ليُفصح عن تجربته مع الحياة...لكأنّها تُريد أن تحتميَ بالماضي من شبح الموت الذي يُهدّدُها، لكأنّها تُريدُ أن تؤجل قدومه، لكأنها تريد أن تخاتله. خمسُ شخصيّات تتقاسم في هذه المسرحيّة غنائمَ البطولة لعلّ أهمّها وأَوْلاَها بالعنايةِ هي شخصيّة الأب الذي قدّمته المسرحيّة وكأنّهُ امتداد للأرض، شجرة من أشجارها، حفنةٌ من ترابها... لهذا رفض أن ينقطع عن جذوره، أن يرحل عن أرضِه.. هذا الرحيل وذلك الانقطاع إيذان بموتٍ وشيكٍ، بنهايةٍ قريبة. وقد ذكرت الكاتبة ليلى طوبال أنّها استوحت هذه الشخصيّة من مشهدٍ أبصرته في التلفزيون يصوّر امرأة فلسطينية طاعنة في السنّ أصرّت على أن تحمي شجرة الزيتون بجسدها ...فعمدت إلى احتضانها متحدّية الجرّافات الاسرائيلية. وتضيف الكاتبة «كتبتُ شخصيّة الأب على هذا النحو لأصل بين الزيتون التونسيّ والزيتون الفلسطينيّ...» هذه الشخصيّة المرتبطة بأرضها، وتاريخها تقابلها شخصيّة الابن الذي ينتمي إلى زمن آخر، وإلى منظومة قيميّة أخرى. ثمّة هوّة عميقة تفصل بين هاتين الشخصيّتين لا يمكن بأية حال من الأحوال ردمها أو القفزُ عليها. والأمر لا يرتدُّ إلى ظاهرة صراع الأجيال، وإنّما هو أخطر من ذلك وأبعد أثرا. كلّ شيء يباعد بين الطرفين، ولا شيء يُقرّب بينهما. كلاهما غريبٌ عن الآخر، ولا واشجة تجمع بينهما. إنّ ترتيبنا للأحداث على هذا النّحو لا يعني أن المسرحيةَ تلتزِمُ بالزمنِ الموضوعي حيث الأحداث تتسلسل على نحوٍ يقرّبُها من شكل جريانها في الواقع. فالمسرحيّة تعمَدُ، باستمرارٍ، إلى خلخلةِ نظامِ الزّمن الموضوعيّ، تخرُجُ عليهِ، تُعيدُ ترتيبه وفق منطقٍ مُختلفٍ حيث تتداخل الاسترجاعات والاستياقات تداخلَ التعميةِ والتسويةِ والتشابُكِ... فهذه المسرحيّةُ هي، في المقام الأوّلِ، مسرحيةُ الذاكرةِ تُلقِي بأثقالِها وجِراحاتِها أمام المشاهد . ويتجلّى حضور الذّاكرة أقوى ما يتجلّى مع نجمة . فهذه المرأة هي ماضيها، طفولتُها، ذاكِرتُها الذاهبَة بعيدا في الزمنِ... لكأنّها لا تنتمِي إلى الحاضر، أو كأنّ انتماءها إلى الحاضِرِ كان انتماءً قصريا.. أو لربّما كان انتماء عَرَضِياّ... فالمسرحيةُ هي، في آخر الأمر، ضرب من البوح والاعترافِ، ضربٌ من المكاشفةِ... وقد اختارت الكاتبة أن تكون هذه المكاشفة ساخرة، مفرطة في سخريّتِهَا... وكأنَّ أسلوب السخرية هو أفضل الأساليب للحديث عن الموت والحياة، عن الذات والآخرين... فالسّخرية، في هذه المسرحيةِ، شكل من أشكال المقاومة، من الدفاع عن الذات. فعزّ الدين قنون يرفض، كما صرّح في العديد من المناسبات، المسرحَ القاتمَ المتجهّمَ. المسرحُ، كما كان يردّد دائمًا، هو لحظة «التذاذ واستمتاع» عن طريقِهِ ينعطفُ الإنسانُ على نفسِهِ، وعلى العالمِ المحيطِ به بالنظرِ والتأمّلِ. أمّا الكاتبة ليلى طوبال فتُسوّغُ هذه التجربة قائلةً « إنّ المسرحيّة أرادت، في كلّ مشاهدها، أن تسخر من الموتِ وتعلن أنّ الحياة أقوى... أنّ الحياة أجمل. هكذا وجدنا « نجمة»، على سبيل المثال، تتمنّى أن تكون جنازتها غير عاديّة، لهذا طلبت نشر رسالة الكترونية توضّح فيها طقوس العزاء، ودعت إلى إزجاء الشكر، عن طريق الفيسبوك، لكلّ من قدّم واجب العزاء. وقد اختار المخرج لأحداث مسرحيتِهِ خشبةً عارِيَةً، لا شيءَ فيها غير كرسيٍّ يتداولُ عليه الممثلُونَ لِيعترِفُوا، ويبُوحُوا، ويُفصِحُوا عن غائرِ مشاعِرهم... هذا الفراغ هو الذي جعل الممثلَ سيدَ الخشبَةِ دُونَ مُنازِعٍ يملأُ فراغَها بجسدِهِ وحركاتِهِ وصوتِهِ وكأنّ المخرج أراد أن يستعيدَ درسَ كروتفسكي الذي اعتبر المسرحَ «ممثلاً ومُشاهدًا»... فالفنّ الرابع، كما قال هذا الفنّان، قد يتخلّى عنِ الماكياج والأزياءِ، والمؤثرات الصوتيةِ والإضاءةِ... لكنّهُ لا يستطيعُ، بأيةِ حالٍ من الأحوالِ، أن يتخلّى عن ذيْنك العُنصُرينِ: الممثّل والمشاهد.. فهما أساس الفنّ المسرحي وجوهره العميق . لكنّ الذي نريدُ أن نُلحَّ عليهِ أنّ قيمةَ المسرحية لا تكمُنُ في أسلوبِ إخراجها وطريقة عرضها فحسب وإنَّما تكمُنُ أيضا في جمالِ نصّها، وأناقةِ كِتابتها. فهذا النصّ يشدّ الانتباه إليه قبل أن يشدّنا إلى شيءٍ آخرَ قبلَهُ أو بعدهُ. فقد استخدم، وهو يُثير قضيّة الحياةِ والموتِ، شاعريّة من نسبٍ مخصوصٍ هي شاعريَّةُ الحوارِ ينعقدُ بين الشخصيّاتِ حينا، وبين الشخصيّات وذواتها حينا آخرَ. هذه الشاعريّةُ مكوِّنٌ من مكوّنات المسرحيّةِ، عنصرٌ مكينٌ من عناصرِها الأولى... بل ربَّما قامت بعضُ فصولِ «أخر ساعةٍ» على لغة المجاز يشفُّ ويرقّ حتى يبلُغَ درجَةً من الإيحاءِ بعيدة... فلغة المسرحيّة آثرت الإشارة على العبارةِ، والتلميحَ على التصريح ساعيةً إلى تأسِيس مشروع مسرحيّ يجمع بينَ رمزيَّةِ اللغةِ، ورمزية العرض جمعَ تلاؤمٍ وانسجامٍ. تحدّثت ليلى طوبال عن طريقتها في الكتابة فقالت إنّها في مرحلةٍ أولى تنجز مشروعَ النصِّ، أمّا في المرحلة الثانية فإنّها تأخذ هذا المشروع، حسب عبارتها، «و تلقي به على الخشبة ليحتكّ بالتطوّر الدرامي لكلّ شخصيّة، فالمشروع كتابةٌ غير منتهية، الكتابة هي كتابة الخشبة، كتابة الممثّل، كتابة الجسد... وهذا يعني ضرورة اختفاء المؤلّف، ترك المجال للشخصيّات تتكلّم بدلاً عنهُ».