تواصل «الشروق» اليوم استعراض فصول من كتاب بعنوان: «بورقيبة ونويرة: ذكريات ومذكرات» الذي صدر مؤخّرا للمؤلف محمّد الهاشمي عبّاس وبتقديم للأستاذ الشاذلي القليبي، وبعد نشر جوانب مهمّة جدّا من خصال وشخصية الزعيم الهادي نويرة ننشر اليوم معطيات مهمة عن مسيرة في اطار تسوية الخلافات بين رموز الحركة الوطنية و النضال ضد المستعمر سياسيا ونقابيا وحزبيّا: كان من نتائج المؤتمر الرابع للحزب الحر الدستوري برئاسة الهادي شاكر تأليف ديوان سياسي برئاسة الهادي نويرة الزعيم الصامت، فهذا الرجل كان يعمل بصمت وعمق يسمعك بانتباه ولا يتحوّل عن مبادئه مهما كانت التكاليف. يقول مؤلف الكتاب: «انضم نويرة في تلك الفترة لادارة الحزب وكلّف بعدة مهام عزّزت مكانته وعرّفت بقدراته، فكان مقررا عامّا لمؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد الثاني المنعقد بنهج «التريبونال» في 29 أكتوبر 1937 وقام بتغطيته بحنكة وكفاءة عن طريق الصحافة، كما استطاع بورڤيبة وبمعية أعضاء من الديوان السياسي منهم الهادي نويرة أن يقرر اضرابا عاما في 20 نوفمبر 1937 تضامنا مع الأشقاء الجزائريين والمغاربة احتجاجا على ما قام به الاستعمار الفرنسي من اضطهاد وتعسّف. وقد عمل نويرة في الديوان السياسي بعد المؤتمر على ارساء فكرة الاضراب الذي أكّد على أن الاضراب العام يعدّ سلاحا خطيرا ويجب استعماله؛ ولأوّل مرة تلتجئ اليه الحركة الوطنية وهو نفس ما عبر عنه بجريدة «لاكسيون تونيزيان» في مقال صدر يوم 13 نوفمبر 1937»، ومن ذلك الحين فكّر بورڤيبة وبمعية نويرة في السعي لجعل الحركة النقابية الى جانب الحركة السياسية تعزّز جانبها وتكون لها سندا قويّا فما كان منهما الاّ أن عملا على احياء «جامعة عموم التونسيين» بواسطة أحد مناضلي الحزب الجديد بلڤاسم الڤناوي، ولما ضعف تحت تأثير الضغوط المختلفة منها السلط الاستعمارية وخرج بها عن المسار الصحيح سارع بورڤيبة ورفاقه في الديوان السياسي بتخليص المنظمة منه وأوكل أمرها للهادي نويرة، ورحبت به النقابات المتخلية عن القيادة المتخاذلة ليكون كاتبا عامّا. وحدة الصف الوطني وتنكيل وكان الهادي نويرة يخطط لمستقبل وحدة الصفّ وتكتل القوى الحيّة للمواجهة وهو من دعاة سحب الثّقة من حكومة «ليون بلوم» واستئناف النضال من جديد، فكان يهيئ لانتفاضة 9 أفريل 1938 وهو يؤمن «أن لا وجود لخط فاصل بكل وضوح ودقة بين العمل السياسي والعمل النقابي، ومنذ ذلك الحين كان له نشاط ملحوظ داخل التراب الى أن تمّ ايقافه يوم 4 أفريل 1938 بسوق الاربعاء ونقل في جوان 1940 الى قلعة «سان نيكولا» بمرسيليا وهو الأمين العام المساعد للحزب والمشرف على المكتب السياسي السرّي». كانت ظروف سجن الهادي نويرة في تونس أو في فرنسا صعبة، قاسى فيها من ويلات السجن والتعذيب ما لا طاقة بتحمّله الاّ مَنْ كان من أمثاله من الأبطال وهم قلائل، وكانت هذه معاناة السجن للهادي نويرة بعد معركة 9 أفريل 1938 والقاء القبض عليه قبل اندلاعها والى أوان نقله مع رفاقه الى قلعة «سان نيكولا» بمرسيليا في 27 ماي 1940 شديدة، وهناك لم يسلم من التنكيل فجرّد من ثيابه وانهالت عليه الشتائم والضرب المبرح وتكرّر سوء معاملته لتحطيم معنوياته، ومع ذلك لم يلن، ولم يضعف بالرغم من أن في تلك الفترة كانت عائلته بالمنستير تعاني أشدّ أنواع الحرمان والتعسّف الاستعماري. نضال حزبي ومؤامرات بمجرد العودة يوم 26 فيفري 1943 قام الهادي نويرة بعمل جبّار وأبلى في تبرئة الحزب وأتباعه بلاء كبيرا، فانطلق صبيحة يوم 12 مارس في زيارة مفاجئة الى القيروان مرفوقا بالدكتور الحبيب ثامر تفقد خلالها الشعبة والأماكن التي أصابها القصف الجوي، وفي مساء يوم 13 مارس انتظم اجتماع شعبي بصحن جامع عقبة ترأسه وافتتحه الهادي نويرة، وتحت رئاسة المجاهد الأكبر الشرفية، ويتضح من هذا الاجتماع أنه يرمي الى تصحيح الأوضاع ويضع القيادة الحزبية في مسارها الأصلي، وليذكر أن الزعامة الأولى لم تتغير وأنها باقية للحبيب بورڤيبة بعد أن تسرّبت بعض الشكوك وتحولت أو كادت الى غيره حتى بلغ الأمر بجريدة «افريقيا الفتاة» أن تنسب الزعامة الكبرى للدكتور الحبيب ثامر ونعتته بالرئيس الجليل المجاهد الأكبر. كما كان لنويرة دور فاعل في مؤتمر ليلة القدر المنعقد يوم 23 أوت 1946 شارك في اعداد لائحة المطالبة بالاستقلال والتي كانت نتيجة ما تمخض عنه من تقارب بين الحزبين الدستوريين القديم والجديد، وفي الأثناء داهمت قوات الأمن مقر المؤتمر، وأخذ يصدع بالقرار: «بصفتي رئيس المحكمة الجنائية أتولى اصدار الحكم بالاعدام، فاني أصدر في هذه اللحظة حكم الاعدام على الاستعمار». ولم يمهلهم رجال الأمن حتى تلاوة اللائحة العامة والاعلان عنها اذ عمّت موجة من الارتباك والفوضى التي أدخلتها الشرطة وتمّ القاء القبض على القادة الحاضرين، في حين تمكن الهادي نويرة كما قلنا من الهرب عبر السطوح بالقرار واللوائح النهائية، وتمّ انتخاب الهادي نويرة في هذا المؤتمر عضوا بالديوان السياسي، وحرص الحزب الحر الدستوري في سنة 1947 على بعث لجنة اغاثة واسعاف قومية أوكل رئاستها الى الهادي نويرة واليه يرجع الفضل في تنظيم العون والمساعدة للمحتاجين ومدهم بما يحتاجونه من اطعام ومساندة وانتظمت طوابير لاطعام الجائعين في مطاعم أنشئت خصيصا لهم، أما موقف الهادي نويرة من مؤتمر دار سليم المنعقد يوم 07/10/1948 فقد تمكّن بمعية محمود شرشور من تصحيح المسار واعادة الوئام وحصل الاجماع على منح الثقة الكاملة الى مختلف مسيّري الحزب والاتفاق على ميثاق الاستقلال، ومع ذلك لم يمنع صالح بن يوسف من تكوين ديوان سياسي آخر، وعرف التوتّر بين الرجلين صالح بن يوسف والهادي نويرة سواء لاختلاف في الأمزجة أو في أسلوب العمل. نويرة وحشاد ومن المفيد والهام في حياة الحركة الوطنية الحاسمة التحدث عن العلاقة النضالية التي تربط بين الهادي نويرة وفرحات حشّاد بعد انبعاث الاتحاد العام التونسي للشغل وانضمت اليه الجامعة العامة للشغل التي صحّح مسارها الهادي نويرة فكانت تجمعهما نضالات عديدة، كانت في البداية على صعيد الصحافة وخاصة في جريدة «ميسيون وقد واصلا نشاطهما العلني الى أن أصبح في كنف السرية ليصبح حشّاد المنسق العام للدستور الجديد والحركة النقابية وفي مؤتمر الحزب بنهج (قوسطو) السرّي بعد ايقاف الحبيب بورڤيبة في 18 جانفي 1952 والذي ضمّ أعضاء الديوان السياسي وفرحات حشّاد قرّر الشروع في المواجهة والمقاومة وترأس الهادي نويرة أوّل اجتماع للديوان السياسي الجديد بمشاركة فرحات حشّاد الذي عرض فيه برنامجه المتعلّق بتشريك النقابيين في مواجهة الاستعمار بعد انقطاع الحوار مع الحكومة الفرنسية ولما لم تقدر السلط الاستعمارية على اعتقاله خوفا من ردود فعل «السيزل» عمدت الى اغتياله يوم 5 ديسمبر 1952، وعمدت سلط الحماية الى اعتقال وزارة شنيق، ونصبت حكومة صلاح الدين البكوش، ولم تعتقل الهادي نويرة لأنها كانت تأمل أن يكون ضمن التركيبة الوزارية، ولما رفض ألقت عليه القبض وبعثت به الى المحتشد بتهمة رفض منصب وزاري وهي تهمة لم يسبق لها مثيل. ثم وضعته في بيته تحت الاقامة الجبرية وكأنها كانت تفكر في عملية لاغتياله بتواطؤ البوليس و«اليد الحمراء» وهو ما اكتشفه السيد البشير ابن علي المكلف ليكون الصلة بينه وبين أعضاء الديوان السياسي، اذ هناك من أبلغه أن حركة مسترابة تجري في مصالح البوليس ضدّ الهادي نويرة فقد لوحظت عند منتصف الليل سيارة سوداء تابعة للبوليس تحوم حول بيته واذا رأت بعض الشبّان تحوّلت ولم تبق مما أجبره على التحوّل الى بعض الأجوار والأصدقاء لقضاء بعض الأيام عندهم، وقد تعرض نويرة من قبله لمحاولة اغتيال بباردو حيث يسكن، لكنّ الهادي نويرة ظلّ محافظا وفيّا لنهج المجاهد الأكبر ولم يحد عنه حتى لما أظهر الخصم من القمع والاعتقال واراقة الدماء ما أظهر وفرض الأحكام العرفية بعد ابعاد بورقيبة، حافظ نويرة على النهج السياسي الدبلوماسي الرصين العقلاني، وكتب مقالا لم يُعجب البعض من رفاقه وفي طليعتم الباهي الأدغم الذي بمجرد اطلاعه على المقال وهو مقيم وقتئذ في باريس اذ صاح مستنكرا قائلا ما معناه «آه، ياله من خائن» ثم أضاف: «ما زال يمسد على ظهر فرنسا». يقول المؤلف: «وفي جلسة مع الهادي نويرة بتاريخ يوم الاربعاء 19 ماي 1982 رجب 1402 جمعتني أنا وشقيقي الحبيب في سياق الحديث عن الرئيس بورڤيبة واخلاصه له قال لنا: «عام استقالتي من الديوان السياسي.. سافرت الى باريس وأنا مريض للعلاج، وهناك علمت بأن صالح بن يوسف كلّف من سيقتلني، فبعثت باستقالتي لبورڤيبة وأنه لا يعلم بمحاولة صالح بن يوسف لأنه خارج البلاد، فلما وصلت استقالتي الى تونس، حاولوني على سحبها، فرفضت فقالوا: تعلن أنك مريض فقط، قال سي الهادي: «هذه استقالتي لا تراجع فيها هذا هو الذي يهمّني، ويقول نويرة:»كان أحمد المستيري يعلم أن صالح بن يوسف كلّف من يقتلني، وكنت على علم من الأمر وكافحته بذلك في داري هنا، وكان المنجي سليم يعلم ذلك. فلما عاتبه محمد صفر قائلا له ما معناه كيف تسكتون على ذلك وأنتم تعلمون بالانجاز؟ فقال له المنجي سليم «يزّي من القوادة» كان متحمسا معهم فيما يحاولون، وكان السيد أحمد المستيري على اتصال بي وبصالح بن يوسف في «جنيف» وذهب السّيد البشير زرق العيون مرة الى صالح بن يوسف طالبا منه جانبا من المال فرفض أن يسلمه شيئا الا أن يغتال السيد الهادي نويرة، فردّ عليه قائلا: هل انقلبت مهمّتنا فأصبحت تتمثل في اغتيال الوطنيين، بينما هي موجهة أصالة لاغتيال الاستعماريين، وما ذنب السيد الهادي نويرة حتى يكون جزاؤه القتل؟، كما يجدر الاضافة الى ما جاء في الهامش عن أسباب استقالة السيد الهادي نويرة من ادارة الحزب: «من أسباب استقالته التي لم يعلن أحد عنها ورود تعليمات من القاهرة باغتيال الهادي نويرة ثم اقامة جنازة له. وقد أشار الباهي الأدغم الى شيء من هذا في المراسلات التي نشرها في ديسمبر 1990.