والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الإعاقة: التونسية سمية بوسعيد تحرز برونزية سباق 1500م    طقس اليوم: أمطار بالمناطق الغربية والشرقية وحرارة أربعينية بالجنوب    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    بن عروس: اندلاع حريق بمستودع قديم وغير مستغل    رئيسة مكتب مجلس أوروبا بتونس تقدّم خلال لقاء مع بودربالة مقترح تعاون مع البرلمان في مجال مكافحة الفساد    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    تونس تشارك ب14 مصارعا ومصارعة في البطولة العربية بالأردن    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    قابس: تراجع عدد الأضاحي خلال هذه السنة مقارنة بالسنة الفارطة (المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية)    إرتفاع قيمة صادرات المواد الفلاحية البيولوجية ب 24،5 بالمائة    تفكيك شبكة لترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص مخدر    القيروان :الاحتفاظ ب 8 اشخاص من دول افريقيا جنوب الصحراء دون وثائق ثبوتية يعملون بشركة فلاحية    مدير معهد الإحصاء: كلفة انجاز التّعداد العامّ للسّكان والسّكنى لسنة 2024 تناهز 89 مليون دينار    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    وزير التشغيل والتكوين المهني يؤكد أن الشركات الأهلية تجربة رائدة وأنموذج لاقتصاد جديد في تونس    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    الخارجية الألمانية.. هجمات المستوطنين على مساعدات غزة وصمة عار    رسميا.. سلوت يعلن توليه تدريب ليفربول خلفا لكلوب    اكتشاف جديد قد يحل لغز بناء الأهرامات المصرية    قيس سعيد يُعجّل بتنقيح الفصل 411 المتعلق بأحكام الشيك دون رصيد.    سعيّد يأذن بتنقيح فصولا من المجلة التجارية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    أولا وأخيرا ..«سقف وقاعة»    عاجل/ إسبانيا تتخذ اجراء هام ضد الكيان الصهيوني..    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    دقاش: افتتاح فعاليات مهرجان تريتونيس الدولي الدورة 6    وزير الفلاحة: المحتكرون وراء غلاء أسعار أضاحي العيد    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    حاولوا سرقة متحف الحبيب بورقيبة الأثري...القبض على 5 متورطين    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    عاجل/ أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    القصرين: وفاة شاب في حادث مرور    اتحاد الفلاحة: أسعار أضاحي العيد ستكون باهضة .. التفاصيل    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    طارق مهدي يفجرها: أفارقة جنوب الصحراء "احتلوا" الشريط الساحلي بين العامرة وجبنيانة    فرنسا: الشرطة تقتل مسلحا حاول إضرام النار بكنيس يهودي    بطاقة إيداع بالسجن في حق مسؤولة بجمعية تُعنى بمهاجري دول جنوب الصحراء    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    محيط قرقنة اللجنة المالية تنشد الدعم ومنحة مُضاعفة لهزم «القناوية»    روعة التليلي تحصد الذهبية في بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاكمة الحبيب عاشور الحلقة الخامسة
احداث 5 أوت 1947: بقلم الاستاذ منصور الشفي
نشر في الشعب يوم 08 - 08 - 2009

تأسس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي .1946 وفي ظرف سنة من وجوده، برز كقوّة هامة في البلاد، بل اصبح في هذ الظرف الوجيز أهمّ منظمة إجتماعية في تونس حتى أن مؤتمره الثاني المنعقد في جانفي 1947 جمع 387 نائبا كانوا يمثلون 246 نقابة تمثل العملة والموظفين.
ومنذ إنبعاثه، سعى الاتحاد ليكون الممثل الأهم لجموع العمال التونسيين على جميع الأصعدة.
وتمكن من فرض نفسه على لجنة مراجعة الأجور، فقد نشر الرائد الرسمي بتاريخ 20 جوان 1947 تركيبة اللجنة المركزية لمراجعة الاجور، ولاول مرة في تاريخه يصبح الاتحاد العام التونسي للشغل عضوّا باللجنة المركزية لمراجعة الاجور.
وفشلت المحادثات داخل هاته اللجنة. ولم يستطع الاتحاد فرض الترفيع في الاجور فوجد نفسه مضطرّا الى إعلان الاضراب العام بعد ان اصدرت الحكومة تحكيمها في مشكلة الاجور وكانت هاته الاجور زهيدة ومزرية ولا يمكن ان تفي بالحاجيات الضرورية للعمال.
وكان هذا الاضراب العام، قد تقرّر أن يكون لا نهائيا حتى تستجيب السلط لطلبات الاتحاد في الترفيع في الاجور.
وفي بيان اعلان الإضراب الصادر عن الإتحاد. تقرّر ان يبتدئ الإضراب العام ليلة 4 اوت 1947 عند منتصف الليل.
تمّ الإضراب العام بكامل البلاد يوم 4 أوت، وكان اضرابا عاما ناجحا بكامل البلاد.
وفي يوم 5 اوت كان الامر كذلك، في كافة المدن التونسية بإستثناء مدينة صفاقس اذ ان السلطات الاستعمارية إختارتها لضرب النقابيين.
ومنذ فجر يوم 5 أوت عندما كان القطار الرابط بين صفاقس وتونس يستعدّ على الساعة الرابعة فجرا للانطلاق كان المضربون قد تجمّعوا لمراقبة حسن سير الاضراب، وكان على رأسهم الحبيب عاشور. فوجئوا بخروج مدرّعات تحمل جنودا فرنسيين من الثكنة التي كانت تقع قبالة محطة الارتال وتشرع في إطلاق الرصاص وخلال بضع دقائق سقط ثلاثون قتيلا ومئة جريح. وحمل الجرحى الى المستشفى، وأعلم فرحات حشاد بتونس العاصمة بخبر المجزرة وما قام به الجيش الفرنسي فجمع المكتب التنفيذي على عجل والذي أصدر إحتجاجا على هذا الإعتداء.
وإنطلقت إشاعات تأكدت فيما بعد مفادها أن المقيم العام يعدّ لإستصدار امر من الباي بحلّ الإتحاد العام التونسي للشغل. وبعد مقابلة مع مصطفى الكعاك الوزير الاول التونسي في نهاية يوم 5 أوت ليلا طلب من الإتحاد ان ينهي الاضراب العام خاصة وانه ستقع الاستجابة لمطالب الاتحاد في الترفيع في الاجور. ولابد هنا من كلمة عن الوزير الاول مصطفى الكعاك فقد كان عميدا للمحامين (القسم الفرنسي) لمدة يومين اذ تمّ إنتخابه يوم 18 جويلية 1947، بدعم من المقيم العام الفرنسي الذي وقع اختياره عليه لاقتراح تعيينه من طرف الباي وزيرا اولا للحكومة وقد تمّ تعيينه بهذا المنصب بتاريخ 20 جويلية 1947 وكان مصطفى الكعاك متميزا بذكاء حاد وثقافة عامة واسعة إلاّ انه لم تكن له أية خبرة سياسية وكان طيلة حياته بعيدا عن جميع التيارات السياسية، وقد قاومه الوطنيون مقاومة شديدة.
كان فرحات في مقابلته لمصطفى الكعاك مرفوقا بوفد نقابي وقد طلب منه ان يقف الى جانبهم ولكنه برغم ما أظهره نحو فرحات من تعاطف وتقدير وانه أشعره انه لا يستطيع ان يفعل شيئا من اجل الاتحاد وان حلّ المنظمة سيفرضه المقيم العام، وهنا ظهرت لفرحات حشاد فكرة ذكية جدا نستطيع القول انها انقذت المنظمة من الزوال وهو طلبه وسعيه لتدخّل الباي في الموضوع وإقناعه بعدم اصدار امره بحلّ الاتحاد. بمجردّ علمه برغبة فرحات في مقابلته لم يتردد الباي، في استقباله فإستقبله.
ولابدّ لنا هنا من كلمة عن الامين باي ودوره في هاته الاحداث في شهر ماي 1943 قامت السلطات الفرنسية بعزل باي تونسي الشرعي المنصف باي ونصّبت مكانه وليّ العهد محمد الامين باي ومنذ ذلك التاريخ والامين باي يشعر ان التونسيين لم يقبلو به ملكا عليهم وبقي يبحث عن الشرعية واقتنع او أُقنع بان هاته الشرعية سوف يجدها بوقوفه الى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل هاته المنظمة التي اكتسبت رغم نشأتها الحديثة شعبية واسعة وقوّة هامة.
ولذلك لم يتردد في إعلان وقوفه الى جانب الاتحاد في محنته واعلم الوفد الذي كان يقوده فرحات حشاد بأنه سوف لن يمضي الامر الذي أعدّه المقيم العام بحلّ المنظمة وتذرّع كما طلب منه فرحات ذلك بانه اذا كان الأمر قد اقتضى حلّ الاتحاد العام التونسي للشغل فإن هذا الحل يجب ان يشمل كافة المنظمات النقابية الاخرى.
وكانت الفكرة ذكية جدا من فرحات لانه يعلم ان ذلك سيحدث ضجة كبيرة بفرنسا وان الاحزاب والتنظيمات الفرنسية التي لها ارتباطات بمنظمات نقابية بتونس سوف لن ترضى بذلك مطلقا.
وأمام إصرار الباي على ان ألاّ يقع حلّ الإتحاد تراجع المقيم العام في طلبه.
وقد كان الباي مرتاحا جدا لفرحات حشاد هذا الشاب البالغ من العمر 34 عاما والمتميّز بالرأي الحصيف وقوّة الشخصية.
ومن هذا التاريخ توطدت علاقة الصداقة بينهما وهي صداقة إستفادت منها الحركة الوطنية.
ومنذ تاريخ 23 أوت 1947 يوم مقابلة الباي أي بعد ثمانية عشر يوما من الاحداث الدامية، وكانت فترة ترقب وخوف على المصير إطمأن فرحات ورفاقه الى ان المنظمة قد إنقذت ولهاته الفترة تعود كلمة فرحات الشهيرة (الفائدة في الشقف نطمان عليه) والشقف في لغة اهل قرقنة هي المركب الذي به يصطادون وعليه يسافرون فهو إطار العمل الذي يجب دوما المحافظة عليه، والشقف في تعبير فرحات هو الإتحاد العام التونسي للشغل.
وبعد ان إطمأن فرحات الى مصير المنظمة تفرّغ للاعتناء بقضية صديقه ورفيق دربه الحبيب عاشور.
وبعد ان سقط الحبيب عاشور جريحا حمل صحبة بقية المجروحين الى المستشفى الجهوي بصفاقس أين بقي شهرا كاملا للتداوي نقل على إثره الى السجن المدني بصفاقس في إنتظار محاكمته.
وكان يوم 5 أوت قد فتح تتبع ضدّ الحبيب عاشور وتعهد حاكم التحقيق بالمحكمة باجراء الابحاث.
كانت المحكمة الفرنسية بصفاقس قد تأسست سنة 1945 اما قبل ذلك فإن القضايا التابعة للقضاء الفرنسي بمنطقة صفاقس فإنّها كانت تعرض على المحكمة الفرنسية بسوسة.
قام فرحات بإختيار المحامين الذين سيباشرون الدفاع عن الحبيب عاشور وبقيّة المتهمين. فتمّ اختياره على صالح بن يوسف الكاتب العام للحزب الحرّ الدستوري والهادي نويرة ودوران انقليفيال ومحمد مقني.
وسوف أخصّ كل واحد من هؤلاء المحامين الأربعة الذين كانوا يعتبرون قمّة الدفاع التونسي بكلمة لتقديم هم للقراء.
صالح بن يوسف:
كان سنّ صالح بن يوسف في تاريخ محاكمة احداث صفاقس 38 عاما ووراءه تاريخ طويل من النضال والعمل السياسي.
فقد إلتحق بالمحاماة بعد إتمامه لدراسة الحقوق بفرنسا سنة 1934، وبدأ تربّصه بمكتب إسناد الجيل المحامي الطاهر صفر فأصبح استاذه ومعلّمه وكان الطاهر صفر من أبرز اعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد الذي تكوّن في هاته السنة التي أقصي فيها الحبيب بورقيبة الكاتب العام للحزب ومحمود الماطري رئيسه الى برج الباف بأقصى الجنوب التونسي، فتمّ إلحاق صالح بن يوسف بالديوان السياسي ولم يلبث ان اوقف وإلتحق بالحبيب بورقيبة بالمنفى حيث بقوا مدة عام ونصف وأطلق سراح الجميع في سنة 1936. وبعد إنسحاب الدكتور الماطري من الحزب أصبح بن يوسف من أوائل القايديين فيه وفي سنة .1938 وإثر احداث 9 أفريل الدامية زجّ به في السجن مع الحبيب بورقيبة والطاهر صفر والمنجي سليم والهادي نويرة وبعد سنة كاملة من التحقيق لدى المحكمة العسكرية الرهيبة، احيل ملفهم على دائرة الاتهام بالجزائر ونقلوا الى سجن قلعة «سان نيكولا» بمرسيليا اين أدركتهم الحرب العالمية الثانية فبقوا بالسجن دون محاكمة ولم يطلق سراحهم الا في 16 ديسمبر 1942 حيث عاد بن يوسف للمحاماة ولنشاطه الحزبي.
الهادي نويرة:
ولد بالمنستير سنة 1911 فكان عمره عند المحاكمة ست وثلاثين عاما. بعد دراسته الحقوق بباريس التحق بالمحاماة في تونس سنة 1936 ودخل للتمرين بمكتب نابغة الدفاع التونسي الاستاذ حسن قلاتي وإثر احداث افريل 1938 وعند تفتيش مكتب الاستاذ الحبيب بورقيبة عثر على الرسائل التي كان يتبادلها مع الهادي نورية عندما كان طالبا بباريس فتمّ إيقافه وإلحاقه بمجموعة الموقوفين من اعضاء الديوان السياسي وأطلق سراحه في نفس الوقت مع صالح بن يوسف وعاد للاشتغال بالعمل السياسي والمحاماة.
دوران أنقليفيال:
هذا المحامي الفرنسي الشهير إنتصب للعمل بتونس العاصمة منذ سنوات طويلة وطيلة حياته المهنية الطويلة كان متعاطفا مع قضايا الوطنيين والنقابيين، فقد دافع عن محمد علي المحامي ورفاقه عندما سجنوا وحوكموا من طرف المحكمة العسكرية الفرنسية سنة 1924 كما دافع عن الحبيب بورقيبة سنة 1938، وهاهو الان من بين المدافعين المتحمسين عن الحبيب عاشور وقد أبدع في الدفاع مثله مثل بقية زملائه.
محمد مقني:
كان من أقدر المحامين بصفاقس وهو الذي تولّى مؤازرة الحبيب عاشور عند التحقيق ثم رافع عنه عند المحاكمة.
ونترك الكلمة للحبيب عاشور الذي كتب في مذكراته التي اصدرها بالفرنسية سنة 1989 ما يلي: «بعد حوالي شهر قضيته في المستشفى حوّلت الى السجن ومن هناك كانت الابحاث التي إبتدأت منذ اليوم الاول للحواث تستمرّ ليلا نهارا ولكنّي أستطيع القول أنه لم يسلّط عليّ في أي وقت من الاوقات ايّ تعذيب او ضغوط، وكل الشهود الذين تمّ الاستناد الى شهادتهم سواء من الطرف المدني او من الدفاع وقع الاستماع اليهم ومكافحتهم بالمتهمين بعد بضعة أيام من إنتهاء الابحاث. وقد كان الملف بكامله في حوزتي وأنا في السجن والحال ان موعد المحاكمة لم يعيّن بعد، وقد ترك لي محامي بصفاقس الاستاذ محمد مقني عشرة ايام لقراءة الملف، وبعد ذلك خصّص لي حصّة بساعتين لدراسة الملف معا وكانت هاته الحصة تتكرّر ثلاث مرات في الاسبوع».
ويتابع الحبيب عاشور: «وقد أعلمنا بتاريخ الجلسة قبل انعقادها بأكثر من شهرين وكنت قد أنهيت دراسة الملف مع محامي وأحسست نفسي مستعدا لمجابهة هاته المحاكمة الكبرى التي كان الاتحاد العام التونسي للشغل ينتظرها وكذلك الشعب التونسي وأصدقاؤنا بالخارج والاستعماريون، البعض من أجل إظهار شيء من العدالة ومن اجل اطلاق سراحنا، والاخرون من اجل المطالبة بحلّ الاتحاد العام التونسي للشغل والحكم بالاعدام على مرتكبي(الفوضى) وهو ما كان بالفعل فهناك من فصول الاتهام مالا يقلّ عن فصلين يقتضيان الحكم بالاعدام ويوم المحاكمة والموافق ليوم 10 جانفي 1948، أحتلّت صفاقس بالكامل وإنتشر الجيش على طول المسافهة بين السجن وقاعة الجلسات وكانت المدرعات بمفترقات الطرق والساحات العامة».
ويتابع الحبيب عاشور: «وقد حضر المحاكمة فرحات حشاد الذي كان مرفوقا بالمسؤولين النقابيين من كافة مناطق البلاد والذين تابعوا المحاكمة منذ اليوم الاول وقد كان المحامون لامعين وكان المتهمون وعددهم 13 في منتهى الشجاعة، وكان الشهود الذين وقع الاستماع اليهم من طرف حاكم التحقيق كما وقعت اعادة سماعهم من طرف المحكمة بمن فيهم المراقب المدني وقائد الجيش والعامل وكلّ من وقع ذكرهم من طرف القائمين بالحق الشخصي والدفاع وقع النداء عليهم وكوفحوا بالمتهمين ولم يقع منع اي واحد منا من ان يقول ما يظهر له انه يساعد على اظهار الحقيقة وقد تعرض محامونا للشهود مهما كانت اهميتهم: مثل المراقب المدني او الجنرال او العامل وأخضعوهم للسؤال لإظهار تناقض البعض منهم ولن أنس ابدا الشاهد المدعو (ليقناطي) الذي جاء ليشهد ضدّي فتصدّى له الاستاذ أتقليقيال بالسؤال: «انت تعرف الحبيب عاشور؟ فأجاب: نعم، ومنذ مدة طويلة فقال له المحامي هل يمكن لك ان تشير له من بين المتهمين؟ فرفع الشاهد أصبعه وأشار الى خميس محفوظ وقال: هو هذا. فقال الاستاذ اقليفيال وآذن سيدي الرئيس؟ وإنفجرت القاعة ضحكا فقام الرئيس باخراج الشاهد على عجل وبعد المرافعة السيئة لممثل النيابة قام محامونا وعلى رأسهم ديران انقليفيال وقد برهنوا بكل اقتدار وبراعة على برائتنا بمقتضى النصوص القانونية وذكر لجريان العمل بفرنسا وآراء رجالات القانون ويوم 19 جانفي 1948، اختلت المحكمة للمفاوضة وإنتظرنا حتى منتصف الليل لاستئناف الجلسة وتلاوة نص الحكم وقد حكم على الحبيب عاشور وعلي الحمامي وخميس محفوظ والبشير بن ناصر والمختار شيبوب خمس سنوات اشغال شاقة وعشر سنوات نفي، وحكم على البقلوطي بثلاث سنوات سجنا وحكم على البقية بعدم سماع الدعوى في حقهم. هذا وقد إستند الدفاع في مرافعات هامّة وعميقة الى أن الاضراب حق شرعي وان العمل النقابي هو عمل شرعي، لان ما تمّ كان في نطاق القانون، وكانت مرافعة الاستاذ نويرة مرافعة قيّمة مما جعل رئيس المحكمة يتوجه له علانية بالشكر الخاص».
لقد أبرزت احداث 5 أوت 1947 بصفاقس قائدين فذّين للحركة العمالية التونسية وهما فرحات حشاد والحبيب بورقيبة. فقد كانا قائدين متكاملين، فالحبيب عاشور بحكم طبعته الإندفاعية وجرأته وشجاعته هو الذي يندفع في الخصومات وينظم التصديات، وفرحات هو الذي يفاوض ويناور، وقد كان هذا الدور لكل واحد منهما بارزا منذ تكوين النقابات المستقلة للجنوب بصفاقس سنة 1944 وإستمرار نضالهما في اطارها لمدّة سنتين، او بعد تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل وقد كان اضراب معمل الجلد بصفاقس في شهر جويلية 1947 نموذجا لهذا العمل، فالحبيب كان في مواجهة قوات الجندرمة والسلطة وهو يقود اضراب العملة ويقف على رأس المضربين وكان فرحات الذي قدم من تونس في الوقت نفسه يفاوض المراقب المدني باسم العملة بصفاقس. وقد انتصر فرحات في مفاوضاته انتصارا رائعا أدّى الى إيقاف الإضراب مما حدى بجموع العمال الى حمله على الاعناق والطواف به في شوارع مدينة صفاقس.
لقد كان للرجلين نفس المسيرة النقابية. فقد انتمى كلّ واحد منهما لنقابة الس ج ت سنة 1936 فرحات من سوسة والحبيب من صفاقس الى ان خرجا منها سويا سنة 1940.
وبعد ان انتقل فرحات حشاد الى العمل بصفاقس سنة 1940 بدا يفكر مع الحبيب في تكوين نقابات مستقلة وأرجئ التنفيذ الى ما بعد الحرب، ثم كوّناها سنة 1944 وإستمرّا في العمل معا الى ان ادخل الحبيب السجن سنة 1947 .
لقد كانت احداث أوت 1947 وما نجم عنها من وقوف الشعب التونسي وقفة تضامن كامل مع النقابيين، وتوصل فرحات الى ان يضع الباي في جانبه هي الباعث على التحول في موقف فرحات، فمن العمل النقابي الصرف بدأ يعمل شيئا فشيئا على ربط العمل النقابي بالعمل الوطني لارتباطهما في معركة مقاومة المستعمر.
وقد أخلص فرحات في عمله هذا، مما بوّأه مكانة هامة تمثلت في قيادة العمل الوطني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.