الكيلاني بن منصور: أستاذ باحث في الماجستير Sinyaski@yahoo.fr وبحساب العامل الزمني، فإن الحضارة العربية الاسلامية في الأندلس احتفظت لنا بما يمكننا بواسطته البرهنة به على أن التواصل والقراءة لدى المكفوفين عن طريق توظيف اللمس عرف منذ ذلك العصر الزاهر. وقد أنجز الباحث الأستاذ صلاح جرار دراسة بعنوان «طريقة القراءة لدى المكفوفين في قصائد من الشعر الأندلسي» تمكن بفضلها من الكشف عن هذه الريادة العربية في ثلاث قصائد من الشعر الأندلسي نظمها ثلاثة شعراء من المكفوفين وإلى جانب هذه الدراسة أنجز الشيخ أحمد الشرباصي كتابا قيما عنوانه «في عالم المكفوفين» خصص بعض فصوله للحديث عن تقنيات التواصل التي يوظفها الكفيف في التعامل مع المكتوب. نظرة النقاد وأصحاب التراجم الى المكفوفين لا يجهل اثنان الأخبار التي انتقلت إلينا عن نبوغ المكفوفين العرب في مجالات اللغة والفقه والشعر، ولعلّه من المؤكد أنه لا يوجد قارئ لا يعرف بشار بن برد، وأبا العلاء المعري، وسليمان بن مسلم «صريع الغواني» وعلي بن جبلة، وشمس الدين الذهبي من المشرق والأعمى التطيلي وأبا القاسم السهيلي، وأبا الحسن بن سيدة، وأبا القاسم الشاطبي، والأعلم الشنتمري من الأندلس. فقد توسعت كتب التاريخ والتراجم في ذكر هؤلاء النوابغ من المكفوفين حتى صرنا نعرف كتبهم وشعرهم وسيرهم وما اختصوا به من ميزات تفوق ونبوغ كل في مجال اختصاصه الذي عرف فيه. ولم تنس تلك الكتب التي ذكرتهم أن تتحدث أيضا عن قدراتهم في التواصل مع المحيط، الى جانب تحليل بعض جوانب المعاناة في حياتهم بفعل سلطة الاعاقة عليهم. إن ما غفل عنه هؤلاء المؤرخون وأصحاب التراجم حسب «صلاح جرار» هو أساليب القراءة والكتابة لدى هؤلاء المكفوفين، وطرق اتصالهم بالعلوم والآداب والأشعار، على الرغم من أكل كل المؤرخين قد عرجوا على مكانة هؤلاء في عالم الأدب والثقافة، وغزارة نتاجهم الفكري والعلمي وانتصابهم للتدريس في أكبر المنابر العربية الاسلامية الزاهرة. طريقة القراءة لدى المكفوفين في ثلاث قصائد ولهذه الأسباب قام صلاح جرار بانجاز الدراسة التي أتينا على ذكرها يقول: «وقد دفعني غياب هذا الجانب الى التنقيب في سير هؤلاء المكوفين بحثا عن أية إشارة تبين الوسائل التي استخدموها في الكتابة والتأليف وتدوين الشعر، والأدب والأخبار. وهل اقتصرت على الاستماع والاستظهار فقط، أم كانت هناك وسائل أخرى للاتصال بالعلوم والآداب»؟. وقد اعتمد صلاح جرار لتحقيق هذه الغاية مصادر أدبية مشهورة على نحو «معجم الأدباء» لياقوت الحموي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، ودواوين شعر المكفوفين أنفسهم مثل ديوان بشار وأبي العلاء وديوان أبي العباس الأعمى التطيلي الأندلسي. إلى جانب المصادر التي اختصت في الحديث عن المكفوفين مثل كتاب «نكث الهميان في نكت العميان» لصلاح الدين الصفدي، وكتاب «البرصان والعرجان والعميان والحولان» للجاحظ. وكانت حصيلة هذا التقصي بعض الأخبار والأشعار عن محاولات المكفوفين ابتكار أساليب خاصة بهم للاتصال بمحيطهم. الى جانب قصائد شعرية تتحدث عن ذكاء المكفوفين وانتقال حاسة البصر الى البصيرة لديهم. غير أن أهم نتيجة وصل إليها صلاح جرار تتلخص في قوله: «وكان أهم ما وقفت عليه ثلاث قصائد لثلاثة شعراء أندلسيين تصف طريقة قراءة الخطوط باللمس، ومازالت اثنتان منهما مخطوطتين، وهما في مخطوط «أدباء مالقة» (مخطوط كان بخزانة الأستاذ محمد المنوني المكناسي وحققه وأعده للنشر صلاح جرار) لابن عسكر، (أبو عبد الله محمد بن علي بن خضر بن هارون الغساني ت 636 ه 1238 م). بينما وردت الثالثة في كتاب «الاحاطة» للسان الدين الخطيب». واقتضت منهجية البحث أن يعرض صلاح جرار كل قصيدة على حدّة حتى نتبين أهم عناصرها وقبل عرضها وفقا لما أورده الباحث نرى لزوما أن نتصدى لتحليل سريع لطرق اتصال المكفوفين بمحيطهم، مرورا بالوسائل التي ابتكروها وعبروا عنها شعريا ضمن دواوينهم المتنوعة. الوسائل التقليدية في اتصال المكفوفين بمحيطهم يعتبر صلاح الدين الصفدي أكثر الكتاب ذكرا لتلك الطرق التي بموجبها يتمكن الكفيف من تحقيق تواصله مع محيطه، ولعل كتابه الممهور ب«نكث الهميان في نكت العميان» يعد مرجعا لكل باحث يروم التقصي عن حقائق هذه التقنيات التقليدية في التواصل. ولا يقل قيمة عن كتاب الصفدي، كتاب أحمد الشرباصي «في عالم المكفوفين» الذي تشكلت مادته كما جاء في مقدمته من المحاضرات الثقافية التي كان يلقيها على جمهور المكفوفين خلال المناسبات التي كان يزورهم فيها بمركز الزيتون بالقاهرة. وقد اعتمد صلاح جرار على كتاب الجاحظ الذي ذكرناه في عرض هذه الطرق التقليدية. لقد اعتمد المكفوفون على المرافق المبصر في التواصل مع المحيط، ولم يكن الرفيق عند النخبة المثقفة مجرد مساعد على التنقل، بل لعب دورا أكبر من ذلك بكثير، فقد كان يقرأ للكفيف ويكتب له ما يمليه عليه وينظم شؤون كتبه ومطالعاته. ولعل أكثر الأخبار في هذا الباب قد صورت لنا علاقة الثنائي (الأعمى والبصير) وهي العلاقة الطويلة والتلازمية التي حصلت بين الأديب أبي جعفر أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الأندلسي الغرناطي (ت 779 ه 1377م) وأبي عبد اللّه محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الهواري النحوي الأعمى (ت 788 ه 1378م) فقد كان النحوي الأعمى يؤلف وينظم، وكان الرعيني يكتب، وكانا متلازمين في الحل والترحال الى مصر والشام والاستماع الى العلماء. والى جانب هذا الثنائي ذكر صلاح جرار أن الشاعر أبا القاسم بن أبي طالب المنيشي (وزير أديب شاعر وناقد عاش في القرن السادس الهجري، من قرية منيش بالأندلس)، كان ملازما للشاعر الوشاح الأعمى التطيلي (أبي جعفر أحمد بن عبد اللّه بن أبي هريرة القيسي الأعمى (ت 525 ه 1130م) له ديوان شعر حققه إحسان عباس ب(بيروت 1968) حتى لقب بعصا الأعمى. يذهب في ظن الكثيرين بأن القراءة لدى المكفوفين هي ابتكار فرنسي حققه لويس براي باختراعه الكتابة النافرة التي تطبع بها اليوم كل الكتب والمعاجم الموجهة لشريحة القراء ذوي الاعاقة البصرية. ولعل سطحية البحوث العلمية والثقافية وعدم التحقيق العلمي الجدي والصارم والشامل في معظم الكتابات المنجزة في هذا المجال كانت السبب الرئيس في ترسيخ هذه المعطيات التي أصبحت ثابتا من الثوابت العلمية في مجال التربية الخاصة. والحقيقة أنه إذا كان من فضل (للويس براي)، فإنه فضل يرتبط باستنباط الكتابة النافرة فقط. أما توظيف حاسة اللمس قناة للتواصل مع الفكر والأدب وكل ماهو مكتوب فليس (للويس براي) سبق فيه. وحتى أستاذه (فالتان هاوي) الذي كان يصنع حروفا من الخشب ليقرأها الكفيف موظفا حاسة اللمس فإنه لم يكن السباق إليه.