اعتمد المكفوفون الى جانب المرافق المبصر على وسائل أخرى مثل البصيرة المتقدة والذكاء الوقاد الذي انتقل إليهم بفعل عدم تعويلهم على حاسة الابصار. كما اعتمدوا ايضا على وسيلة أخرى لازالت تؤتي أكلها الى اليوم وهي استعمال العصا في التنقل والتعرف على الحواجز التي تعترض طريقهم. وقد كانت الاشعار التي وصلتنا خير برهان على وجود هذه التقنيات لدى هؤلاء الجمهور من المكفوفين منذ عصور الحضارة العربية الاسلامية الزاهرة. ولعل وقفة مع تلك الاشعار سوف تمكننا من التدليل على دور تلك التقنيات في اخراج المكفوفين من عزلتهم واقتحامهم لميادين كثيرة حققوا فيها التفوق الكبير. الى جانب القصائد الثلاث التي تحدثت عن القراءة باللمس من خلال مضامين الشعر الاندلسي لثلاثة من الشعراء المكفوفين. لقد أكّدنا أنه لدينا من الحجج والشواهد الشعرية الصريحة ما يكفينا للتأكيد على أن المكفوفين قد ابتكروا طرقا في التواصل مع محيطهم، ونحن اذ دللنا من خلال الاخبار التي أوردناها في ما سبق على لجوئهم الى المرافقة البشرية التي تجاوزت حدود المساعدة على التنقل الى أدوار اكثر أهمية مثل الكتابة والتدوين، فإننا مشيرون ها هنا الى تقنية الاستماع والتلقي بالمشافهة عن جمهور العلماء الذين ضمت مجالسهم اعلاما من المكفوفين، «ففي ترجمته لأبي عبد ا& الحداد المكفوف يقول الضبي في بغية الملتمس إنه كان أديبا مشهورا بقرطبة تقرأ له الاداب والاشعار»، على أنه يظل لزاما علينا بعد هذا التعريج على الشواهد الشعرية التي تثبت استعمال العصا من طرف المكفوفين باعتبارها تقنية في التواصل والتنقل، وليست في مطلق الاحوال ابتكارا مستوردا ووافدا على الساكنة العربية المسلمة. تعتبر العصا من الطرق التقليدية التي وظفها الكفيف في الاسترشاد عن المسالك والطرق التي يعيرها في حياته اليومية الخاصة.وقد اقترن ذكر العصا في الشعر بالتشكي من العمى والظلمة من ذلك أن الشاعر أبي المخشي عاصم بن زيد القرطبي (وهو شاعر مطبوع من شعراء الاندلس في القرن الثاني للهجرة لازم الامير سليمان بن عبد الرحمان الداخل) نظم قصيدة حين سمل الأمير هشام بن عبد الرحمان الداخل عينيه بسبب وشاية يقول فيها بالخصوص. والقصيدة طويلة، ولكنها تصور لجوء الاعمى للعصا كأنيس له في الوحدة ومساعدا له في بلوغ المأرب التي يقصد إليها.وقد زاد ذكاء العميان في تعدد قنوات التواصل لديهم، وهو ما شدد عليه صلاح الدين الصفدي حين قال في كتابه الذي سبق ذكره «قل أن وجد أعمى بليدا، ولا يرى أعمى إلا وهو ذكي». وقد علل الصفدي هذه الظاهرة بقوله: «والسبب الذي أراه في ذلك أن ذهن الاعمى وفكره يجتمع عليه ولا يعود متشعبا بما يراه، ونحن نرى الانسان ان اراد ان يتذكر شيئا نسيه، أغمض عينيه وفكر فيقع على ما شرد، من حافظته». وهذا ما يبرر افتخار بعض الشعراء بالعمى الذي يصيبهم في ابصارهم دون بصيرتهم. ومن أمثلة ذلك قول بشار: ويذكر صلاح جرار ان الثعالبي أورد في «تحسين القبيح، وتقبيح الحسن» أشعارا كثيرة لشعراء مكفوفين يفتخرون بأنهم كذلك. وفي ذلك قال الصحابي الجليل عبد ا& ابن العباس: والشواهد كثيرة في هذا الجانب من الموضوع. غير أن المقام لا يتسع لايرادها كلها، وربما نكون من الفاعلين في غير هذا الحيز. على أنه من الضروري ان نؤكد أننا لسنا بصدد التأسيس لنوع من الأدب مرتبط بالكفف، فهذا امر ليس لنا عليه برهان علمي ولا يحدونا نحوه حتى مجرد ميل او اعتقاد شخصي. فعلى الرغم من اننا لا ننكر تأثير العمى في مضمون الخطاب الشعري والأدبي فيما أسماه غيرنا «كتابة العمى» فإننا لا نجنح الا الادعاء بأن هناك فكرا وأدبا وشعرا انتجته الاعاقة البصرية. وكيف لنا ادعاء ذلك ونحن نؤسس لانسان يتجاوز التأثيرات المكذوبة لسلطة ما للاعاقة عليه. ها نحن نقدم شواهد من تاريخ حضارتنا العربية الاسلامية تقف برهانا ان الشخص الكفيف جعل بفضل بصيرته كثيرا من الاشياء في حياتنا مبصرة. فإبداع الكفيف جعل الأدب والثقافة والفكر والحضارة في حالة إبصار دائم كما تترجمه مختلف شواهدنا التي نوردها. قصيدة الفزازي القرطبي الفزازي القرطبي هو كما عرّفه صلاح جرار «أبو زيد عبد الرحمان بن يخلفتن بن أحمد بن تنفليت الفزازي، نسبة الى جبل فازاز بقبلي مكناسة الزيتون، ولد ونشأ في قرطبة، ورحل الى مراكش وتلمسان وفاس واشبيلية وتونس، وكان على صلة بأمراء الموحدين، وله شعر ونثر، وكانت وفاته سنة 627 ه 1229م». أما قصيدته فهي تصف ضريرا يقرأ الخط باللمس، وهو ما رأى فيه لسان الخطيب مجرد ادعاء لا يحيل على حقيقة. غير أن الشاعر قدّم تفسيرا شاعريا لهذه الظاهرة الغريبة على العقل، يقول خاصة: وقد قسم الباحث صلاح جرار هذه القصيدة الى عناصر ثلاثة: يبرز الشاعر في أولها كيف ان ذلك الشخص يدرك الخط بمجرد تمرير أصابعه عليه، وفي العنصر الثاني يبرز الشاعر انشغال الناس بهذه الظاهرة التي اعتبرت غريبة عن المغرب الاسلامي، مما جعل المجتمع ينقسم في وصفها الى فرق مختلفة في تفسيرها ولا تتفق الا في عدم الظفر بتفسير علمي يحسم المسألة نهائيا، وفي العنصر الثالث وجه الشاعر القضية وجهة غزلية متهما الناس بقلة الادراك للحقيقة على الرغم من انها أوضح من الشمس وهي ان هذا القارئ قد تملّك قلوب الناس لجماله فأصبحت كفه نظرا لأنها تحتوي على تلك القلوب تدرك ما لا يدركه الإبصار. الكيلاني بن منصور: أستاذ باحث في الماجستير