الكيلاني بن منصور أستاذ باحث في الماجستير sinyaski@yahoo.fr مرانة موضحة صارعت من خارق العادة ما قبل كان ويتطرق الشاعر للحديث عن محاولات سابقة أنجزت من قبل المكفوفين في اكتساب مهارة القراءة باللمس سعيا منهم للتواصل مع المادة المكتوبة وهو ما يدل عليه قوله: لعله من نافلة القول ان ما تم العثور عليه من معلومات حول طريقة القراءة باللمس ضمن مخطوط «أدباء مالقة» التي يعود الفضل في تحقيقها واعدادها للنشر للباحث صلاح جرار يترجم ظاهرة متأصلة في المنظومة العربية الاسلامية تتمثل في اعتبار الانسان الأس الذي به يتحقق الانتشار وفرض السيادة والعالمية. لذلك فلا عجب من أن يجد الانسان داخل هذه المنظومة العناية الحقيقية التي تجعل منه عنصرا من عناصر القوة التي تستمد منها المنظومة قوتها وامتدادها. ولعل الاهتمام بالانسان يلخص الوجه الحقيقي لانسانية هذه المنظومة التي انبنت على احترام حقوق الانسان وضمانها وجعلها في خدمة المصلحة العليا للمجتمع. ولعل القصيدة الثانية والثالثة التي بين أيدينا تشرحان بكل وضوح هذه المحاولات المبكرة في جعل المكفوفين يبصرون عن طريق حاسة اللمس بما ييسر لهم الانصهار في جميع المسارات المجتمعية وخاصة منها المسار الثقافي والعلمي والفكري. تختلف قصيدة الشاعر أحمد بن سليمان المعروف ب «كثير الأديب» كما يذكر صلاح جرار عن قصيدة «الفزازي» فالشاعر يطيل التأمل والوصف لقارئ ضرير يقرأ الخط بتوظيف اللمس، وقد وردت في مخطوط «أدباء مالقة» لابن عسكر. ويشرح الشاعر كيفية القراءة باللمس باستعمال البنان عن طريق تمريره على الاحرف المشكلة للخط وفي هذا المعنى يقول: أشكل في غيرك هذا ول كنّ بان في فعلك كل البيان وهو ما يعني أن غيرك أيها القارئ قد حاول ولم يفلح وقد افلحت أنت الآن أمام الناظرين. ويعلق الباحث صلاح جرار على هذه القصيدة بقوله: «ان طريقة القراءة في هذه القصيدة تكشف لنا عن حالة اكثر تطورا من الحالة التي تصفها قصيدة «الفزازي» السابقة، فهو يتحدث عن قارئ يقرأ الخط باللمس، و«كثير الاديب» يتحدث عن قارئ يقرأ باللمس حتى لو وضع على الخط قطعةقماش نافرة تفصل بين أنامله وصفحة القرطاس». قصيدة ابن عسكر المالقي هذه القصيدة الثالثة والتي وردت في دراسة صلاح جرار تعتبر من وجهة نظره ابعد عن التكلف في اللغة والوصف مقارنة بسابقتيها، أي أنها أجمل لغة وتصويرا، غير أنها أيضا دونهما في الوصف العلمي، ولا عجب في ذلك فان أبا عبد ا& محمد بن عسكر المالقي قد وضع كتابا سمّاه «الجزء المختصر في السلو عن ذهاب البصر» مما يجعل الوصف الشاعري للقارئ الضرير من أوكد اهتماماته. يقول في هذه القصيدة خاصة: وقارئ ما تحت أثوابه مزيّة فاضت بأعضائه كأنما قوة ابصاره كأنما الحرف له نابض لا تعجبوا من أن ادراكه كأنما يقرأ ما في طرسه فانقلبت فيه الى ما في حسّه قد نقلت منه الى لمسه وهو كجالينوس في طبّه ينفذ ما يعلوه من لمسه يا قارئ الخط بلمس البنان منيبها لفظا مناب العيان ويؤكد الشاعر ان الفضل في هذه المقدرة يعود الى قوة حاسة اللمس، وهو ما يتجلى في ادراك الضرير للحروف حتى في حالة عزل إصبعه عن الخط بعازل من قماش ونحوه، وشاهد ذلك قول الشاعر: ولو توارى شمته لاحظا ما عاق ذاك اللحظ عنه صوان والقصيدة بها بقية لا يتسع المقام لايرادها كاملة، لكن ما أوردناه يكفي لنلاحظ ان ابن عسكر يقدم تفسيرا لقوة الحس مفاده أن ذهاب البصر قد تم تعويضه بقوة الادراك اللمسي وهو ما يمكن القارئ من قراءة الخط حتى مع وجود حاجز من قماش بين الخط والبنان. والحقيقة ان بعض الاراء العلمية تقر انتقال القوة الادراكية الى بقية الحواس مع ذهاب حاسة البصر وخاصة حاسة اللمس. وعلى العموم فإن هذه القصائد تؤكد من ناحية منطقية ان هؤلاء القراء باللمس ليسوا من المكفوفين منذ الولادة، بل إن ذهاب البصر مكتسب اي حصل في سن الادراك والرشد او الطفولة المتأخرة بدليل انهم يعرفون شكل الحرف ويميزون بين الحرف والحرف بتوظيف الصور الفيزيائية لرسم الحرف التي بقيت في الذاكرة وتتم استعادة تلك الاشكال من الذاكرة التي اختزنتها في فترة الابصار التي سبقت الكفف. والى جانب ذلك تتبين ان محاولات كثيرة قد انجزت ضمن المنظومة العربية الاسلامية لتمكين المكفوفين من القراءة، فهم قد قاموا بمحاولات في تقوية الادراك اللمسي عن طريق التمرن على القراءة بعد لفّ البنان بالقماش ونحوه.وكل ذلك يجعلنا نؤكد ان العناية بفك عزلة المكفوفين وايجاد فرص تواصل حقيقية مع المحيط قد بدأ في اطار هذه المنظومة العربية الاسلامية التي كانت تسعى جاهدة الى فرض السيادة والعالمية عن طريق الاشتغال على الأرض بكل ما له صلة بحياة المجتمع مراعية شواغل الاقليات الموجودة ضمن تركيبة المجتمع. والمحاولات التي أثمرت ابتكار طريقة الكتابة النافرة للويس براي وغيرها من التقنيات الاخرى إنما هي امتداد لتلك المحاولات المبكرة التي بدأت في حضارة امتدت واتسعت بفضل تقليص مساحة الخرافي والخيالي وتوسيع دائرة العلم وجعله ينزل من تأويلات تسبح في الفضاء الى شاغل ميداني يهتم بانسانية الانسان كيف ما كان وضعه. لعلنا بما قدمنا نفتح نافذة على موضوع لم يهتم به النقاد والمؤرخون، على الرغم من أننا لا ننكر فضلهم في اثبات القدرات الأدبية الفائقة لهذه الشريحة المثقفة. ونحن إذ ننهض لهذا الامر فإننا لا ننطلق من فراغ ولانشتغل خارج منظومة نقدية عربية متعددة الحلقات. فقد وجدنا في المدونة النقدية جزيئات متناثرة قمنا بجمعها فبدت موضوعا قائما بذاته. فليس لنا من جهد الا التفطن لهذه المتناثرات وجمعها وفق منهجية تؤسس لثراء المنظومة الثقافية العربية الاسلامية. على أننا ندفع عن أنفسنا نية التأسيس لأدب ينشئه المنشئون بفعل غياب الحاسة البصرية، ففي تصور شخصي يرتقي الى قناعة فانه لا وجود لتأثير يعتد به لهذه العاهة في بروز نوع من الأدب مخصوص. فنحن لم نكلف أنفسنا مهمة البحث في فرادة هذه النصوص التي كتبها الكفيف على مر العصور، ولكننا أردنا ان نواكب مراحل مخصوصة في تاريخ هؤلاء الناس ضمن منظومة الثقافة العربية الاسلامية. ونحن على وعي تام بأن ما نسوقه ها هنا لا يمكن أن يبلغ ما نصبو اليه، ولا يمكننا بذلك التأسيس للشمول والكمال، أو ادعائه. حسبنا أننا نطرح أسئلة قد تكون مدخلا لاثارة اشكالات حقيقية في البحث والتقصي.