مساء يوم الاربعاء الفارط وفي حدود الساعة الثالثة بعد الزوال عم الفزع والرعب جموع الفلاحين والمتساكنين بمنطقة «العين البيضاء» التي تبعد حوالي خمسة عشرة كلم جنوب معتمدية حفوز بعد أن ارتجّت الارض فجأة وانشقت بأحد البساتين الفلاحية حيث تهاوت كتلة كبيرة من التراب الى عمق مجهول وبعثت بغيمة كثيفة من الغبار تدرجت فيها الالوان بين الصفرة الداكنة والحمرة القاتمة ثم علت نحو السماء الى درجة أن كل العملة وأصحاب الضيعة فزعوا وهلعوا وفرّوا مذعورين في اتجاهات مختلفة بينما علت أصوات العجائز والشيوخ بالتكبير والتسبيح والابتهال للخالق حتى يبسط لطفه ورحمته على خلقه. هذا وصف لمشهد أول تكرر على مسامعنا ما إن وطأت أقدامنا تراب المنطقة. وقد استفدنا من نفس المصادر أنه بعد دقائق من الانفجار الصامت تلاشى الغبار تدريجيا وتنفس الحاضرون الصعداء واقتربوا رويدا رويدا من مكان انزلاق قطعة الارض وقد لازمتهم الدهشة وتسمّرت أقدامهم حين اتضحت الرؤية أمام أعينهم فلاحت لهم فجوة كبيرة وعميقة بلعت في جوفها شجرة الزيتون التي كانت ثابتة وشامخة فوق سطحها والتي كان يتظلل ويستريح تحتها ثلة من العمال قبل دقائق قليلة من وقوع الحادثة واختفت من أمامهم في لمح البصر وقُبرت تحت الاتربة بكامل جذوعها وفروعها وعروقها. كما أدى هذا الانزلاق الارضي كذلك الى ضغط باطني اندفعت معه الرمال لتكسّر الجدار الاسمنتي بأسفل بئر قريبة فردم نصيبا كبيرا من عمقها (40 مترا). نجاة العمال من فجوة الموت عند وصولنا الى موقع الحادثة اخترقنا جموع الحاضرين الذين وقع إشعارهم من طرف أعوان الأمن وفريق الحماية المدنية بعدم الاقتراب أكثر ووقفنا عند معاينة المكان من مختلف الجهات على فظاعة الاثر الذي خلفه هذا الارتجاج والمشكل المريع لفتحة الموت. التقينا في البداية مع صاحب الضيعة وهو الشيخ نصر العبيدي فوجدناه في حالة حزن ووجوم وقد اغرورقت عيناه بالدموع فحدثنا بنبرات خافتة قائلا: «قد يبكي الكادحون من عشاق هذه الارض فرحا وطربا حين يمنّ الله بخيره الوفير... وقد نذرف دموعنا على خدودنا كلما تعرّت الارض من اخضرارها... أو حين تنكس الاشجار أعرافها لشحوب أوراقها أو حين يصاب جزء من بساطها بضرر أو دمار مثل هذا فنحزن جميعا لحالها... ولقد عشت أطوار هذا الحادث وأنا على عتبة التسعين وفي أرذل مرحلة من عمر الانسان إلا أن كل مفاصلي قد ارتعدت واستجابت دموعي لعيوني... والحمد لله أن شجرة الزيتون التي كنت أصلي في بعض الاوقات تحتها وأسبح لخالقي وخالقها قد ابتلعتها الفجوة لوحدها بعد أن تفرّق من حولها أحبابها وأصحابها الذين أمدهم الله بعمر جديد». كابوس مرعب ... تدخلت بعد ذلك حفيدة الشيخ نجاح وعمرها 23 سنة التي كانت متأثرة وثائرة على حالها وقد خنقتها العبرات فقالت: شاء قدر الكثير من الفتيات ان تهجر أريافنا ويتجهن الى مدن توجد فيها بنايات شاهقة ومصانع ينبعث من أعمدتها دخان المحركات لتلتقطن رزقهن في ظروف قد تكون مفروضة عليهن بعسرها ويسرها... وبقيت مع الأقلية متشبثين بأرضنا لأنها أحن علينا من البشر... جزعت كثيرا حين التهمت حمرة التراب اخضرار الشجرة وصمت المحرك بعد أن غرق البئر في الوحل وخشيت من أن تتوسع دائرة الخطر ويلحق الضرر ببقية غراساتنا التي سقيناها بجهدنا وعرقنا ومع هذه الهواجس لم نذق طعم النوم طوال الليل وبقينا نحملق بأعيننا على ضوء القمر الخافت صوب تلك الفجوة المرعبة والبئر الصامتة كصمت القبور.... ولكن الحمد لله أنه مع طلوع شمس اليوم الموالي التف الطيبون من حولنا وخففوا عنّا لوعتنا وأيقنا بعدها أن الضرر قد بقي محدودا وانا يراودني أمل كبير بأن نستعيد مرحنا ونشاطنا وابتسامتنا وان نحقق حتى النصيب المتواضع من أهدافنا وأحلامنا. كفاح من أجل حياة أرض اللقاء الأخير كان مع أحد ابناء الشيخ هو السيد العيدي بن نصر العبيدي (55 سنة) وهو مكلف بجميع الأعمال والأشغال الفلاحية بالضيعة... وبرغم حالة الحزن التي كانت بادية على وجهه فقد استجمع كل ما بقي لديه من رباطة جأش وقال: «في ظل الحوافز المتعددة المخصصة للتنمية الفلاحية والتشجيعات والمنح المتوفرة لذلك تحفزت مثل باقي الفلاحين لاصلاح هذه الارض... فلم أجد صعوبة في الحصول على قروض مكنتني من حفر هذه البئر وزرعت الأشجار وغرست مساحات بشتى أنواع الخضر وقد مكنني هذا المشروع أيضا من اتاحة فرص الشغل لبعض الفتيان والفتيات... ورغم ايماني العميق بقضاء الله وقدره فإنني لم أتوقع بأن أهداف الجميع ستتبعثر فجأة ولكن ما خفف عنا لوعتنا وحزننا هي الاحاطة الكبيرة التي لقيناها من قبل السلط المحلية والجهوية من خلال الاجراءات العاجلة التي اتخذت في هذا الشأن وقد أمكن لنا التزود بمياه الري من بئر مجاورة بتوفير كل الوسائل اللازمة (أنابيب وبنزين) حتى تأخذ كل الغراسات والنباتات نصيبها المعتاد من الماء... وحتى لا تتعطل سواعد الكادحين عن العمل.