في عدد سابق من صحيفة «الشروق»، كتبنا مقالا حمل عنوان: «لماذا يرفض نجل أبي القاسم الشابي الظهور الاعلامي»؟ والمقال وصل الى المعني بالأمر السيد جلال الشابي، رجل أعمال في العقد السابع من العمر، وكما وضعتنا الصدفة بمؤسسته الخاصة أول مرة، قادتنا صدفة أخرى لملاقاته وكم كانت الصور التي رُسمت في المخيلة عن الشكل والطباع بعيدة عن الواقع. كان الرجل في منتهى التواضع، ودودا الى حدّ بعيد، طيبته الكبيرة جعلتنا نشعر بالخجل ونحن نعتذر عن صدور مقال سابق يتحدث عنه دون إذنه، بل يحمل لوما مبّطنا بسبب تفاديه وسائل الاعلام. كما أشرنا في ذلك المقال ولكننا «انتهزنا» تلك الطيبة مرة أخرى ليسمح لنا بإجراء حوار معه. من باب الكرم دخلنا وحبا لوالده سألناه، فكان لنا معه هذا الحوار الذي صغناه صياغة سردية لأنه كان أقرب إلى الدردشة منه إلى «الحوار». في مدينة عين دراهم توجد صخرة كتب عليها «هنا وقف الشابي وأنشد «سأعيش رغم الداء والأعداء» كالنسر فوق القمّة الشمّاء»، والناس يرتادون ذلك المكان ويشعرون بفضول ممتع وسعادة. فلك أن تتصوّر سعادتنا بلقاء ابن الشابي بشحمه ولحمه فلماذا «تحرمون» الاعلاميين ومن ورائهم القرّاء من هذه السعادة؟ لم أخطّط أن أحرم أحدا يبتسم كل ما في الأمر أنني كثير المشاغل، كثير السفر، فضلا عن أنني لا أبحث عن الشهرة. فمهما قدمت لعائلتي ولمحيطي الضيق، أشعر دائما أن أبي أعظم مني فأنا أفتخر به في صمت. تمثال والدك رحمه اللّه الذي نُحت على الجبل بتوزر والذي هو عندنا بمثابة تمثال أبي الهول عند المصريين، وصور والدك على العملة التونسية وأسماء ساحات وشوارع ومدارس عديدة بكامل الجمهورية، ماذا توحي إليك هذه الأشياء؟ أنا أنظر الى شخصية أبي القاسم الشابي على أنه عظيم من عظماء الوطن قبل أن يكون أبي، وكلما صرّحت أنني ابنه إلاّ وأجد اهتماما وتبجيلا، أشعر أنه ليس من حقي بل من حق أبي. وقد أكون مخطئا بعض الشيء ولكن اعتدت دائما أن أحتفظ بنسبي خاصة ما لم أجد سياقا مناسبا للافصاح عن ذلك. هل ترى أنّ التاريخ أنصف والدك؟ نعم والحمد للّه فأبي يستحق هذه المكانة التي ذكرت بعض تجلّياتها منذ قليل، وأنا سعيد بذلك إلاّ أنني أودّ أن أشاهد برنامجا وثائقيّا أو فلما عن المرحوم والدي ويقنعني فعلا، لأنني تابعت تقريبا كل ما أنجز سواء في بلادنا أو في البلاد العربية، لكنني لم أجد واحدا أقول إثر مشاهدته: نعم هكذا كان أبي وهو يستحق هذا العمل، وكان آخر ما شاهدته برنامجا عرضته الجزيرة الوثائقية منذ فترة ورأيت أشياء لم تعجبني فهناك مخرج تونسي صرّح في تلك الحصة قائلا: «الشابي هو رمز صنعته الدولة». فكيف له أن يحكم ذلك الحكم؟ فأبي خلّدته أعماله والخلود للّه أقصد الخلود بالمعنى المتداول، وأبي ظهر كرمز من رموز تونس في عهد بورقيبة والحال أنه من الصعب أن يظهر شخص آخر حتى لو كان ميتا ويقدم على أنه عظيم من عظماء تونس، فأبي صار رمزا ولم تصنع منه الدولة رمزا بل أقرّت بقيمته وكافأته وأنصفه الناس والتاريخ. كما أنني لم أستسغ تصريح أستاذة وباحثة حين قالت: إن الشابي غطّى على شعراء عصره، وهي فكرة ساذجة مأخوذة من «لغة الفن»، كأن يُقال أم كلثوم غطّت على مطربي عصرها، فأبي أنصفته أشعاره التي تُرجمت الى لغات عديدة، حتى أنه بلغني، أنه في بوابة احدى جامعات بيكين كُتب بيت مترجم الى الصينية للشابي وهو: «ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر». فالابداع ليس سلعة ليحتكرها أبي لنفسه، وإنّما كان فعلا شاعرا فذّا نحت لنفسه شخصية تميّز بها عن شعراء عصره، خاصة حين صار من رواد الرومنطيقية. هل أنت مولع بالأدب والشعر؟ فحديثك فيه الكثير من الإلمام بما كتب عن أبيك؟ لا أعتبر نفسي مولعا ولكنني أقرأ كلما وجدت الفرصة وعندما أجد كتابا عن الشابي، لا أتردد في اقتنائه، وإن كنت أحتفظ بانطباعاتي لنفسي ولولا «مشاكستك» الصحفية، ما كنت أقول لك ما قلت، وأريد أن أضيف شيئا، أبي قال الشعر منذ كان طفلا ومات في ريعان شبابه في الخامسة والعشرين كما هو معلوم حياة الشابي (1909 1934) وتلك الحياة رغم قصرها أنتج فيها الكثير وعانى فيها الكثير من المرض، ولم يكن في حاجة «ليسرق» أو «ليقتبس» أو «ليستلهم» عنوان ديوانه «أغاني الحياة» من شاعر مغاربي آخر قالوا إنّ له ديوانا عنوانه «أغاني الوجود»، مثلما لمّح أحد الضيوف في البرنامج نفسه، فالذي أنشد «إذا الشعب يوما أراد الحياة..» لا يعوزه عنوان «ليقتبسه»!