قطع الدكتور محمد الغزالي من نفطة إلى باريس رحلة صعبة على حد عبارة الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان عاش لمدة ثلاثين عاما في فرنسا وعاد ليستقر في نفطة التي خرج منها بعد حصوله على الدكتوراه من باريس في اختصاصي تاريخ الأفكار وعلم النفس اللغوي. البحث الجامعي لم يمنع محمد الغزالي الذي بدأ حياته شاعرا من كتابة الرواية بالتوازي مع البحث العلمي. «الشروق» التقته في هذا الحوار ماذا أضافت لك التجربة الفرنسية؟ منحتني تجربتي الباريسية أو لنقل الفرنسية فهم كثير من الإشكالات التي كانت عالقة بذهني ولم أجد لها تفسيرا أو سببا يقنع الفتى الذي كنته فالاحتكاك بالناس في مدينة كباريس يخلق تجربة ويؤدي إلى إدراك بعض الظواهر التي كانت غامضة ومستعصية على الفهم، ثم إن الفترة التي ذهبت فيها إلى باريس كانت مفصلية بحكم السن، ويمكن القول إنني تشبعت بالحضارة الفرنسية وداخلت زواياها خاصة بفضل إتقان اللغة الفرنسية ونسج علاقات واسعة مع المثقفين والباحثين والمبدعين بصفة إجمالية، وأشير وليس هذا سرّا إلى ذكاء الفرنسيين وحسن تدبيرهم الحياتي وتعلقهم الكبير بلغتهم، فأحيانا يعمد الواحد منهم إلى أن يهتف لصديق أو قريب ليسأله عن مسألة علمية أو لغوية ليطمئن قلبه ويعطيه الإجابة الشافية بعيدا عن كل تعميم أو مجازفة كما هو الشأن في الكثير من البلدان، ومن ناحية أخرى قرأت الأدب الفرنسي وزرت أماكن تاريخية ومتاحف لا حصر لها هي التي حافظت على هوية الشعب الفرنسي متعدد الأعراق وقد لفت نظري تدوينهم لكل شيء خوفا من الضياع ودقة الملاحظة والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة ولا يعني هذا بأن لا مساوئ لديهم وإنما ذكرت ما هو إيجابي للغرض. بدأت مسيرتك الأدبية شاعرا ثمّ تحوّلت إلى الرواية والترجمة لماذا هذا الاختيار؟ بدأت بكتابة الشعر وأذكر أنني كنت أقلد الشعر الجاهلي بعدما قرأته أول مرة في كتاب المقرر الدراسي الذي أخذته من الصديق نجيب حمادي التونسي وكان ذلك سنة 1971 ولا أزال أذكر الجهد الكبير الذي بذلته في تقليد قصيدة عنترة العبسي التي أخذت بمجامع قلبي. ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل الرماح لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم وبعد ذلك تطورت تجربتي بفعل الممارسة والاطلاع على التجارب الأخرى ونشرت قصائدي في بعض الصحف التونسية والعربية، وقد نشرت ديوانين بباريس في الثمانينات ولا أزال أكتب الشعر دون انقطاع، لأنه صنو الحياة ونسغها كما أنني حفظت آلاف الأبيات من الشعر أرددها دائما حتى لا يتطرق إليها النسيان. ولم أتوقع يوما أنني سأجرب الرواية رغم أنني كتبت النثر الفني والقصص القصيرة والخاطرة، وأشير هنا إلى أن ما يسمى الأجناس الأدبية إنما هو طريقة إجرائية تساعد على التصنيف ولكنها غير قادرة فعلا على التفريق أحيانا لأن الإبداع واحد في حقيقته، والمبدع في نظري هو القادر على التعبير بالطريقة التي تستجيب للفكرة أو الشعور أو الانفعال دون اقتراح مسبق أو مبيت ودون إسقاط غث، لأن هذا يولد نصوصا باردة مصنوعة وربما ميتة، وقد استهوتني كتابة الرواية حيث أسرح وأمرح وأطوع لغتي كما أشاء فهي حاملة لفكرة أو موضوع ولها قدرة احتواء الشعر والنثر وبها مساحات حرية لا تضاهى، وأشير هنا إلى أن الكاتب رغم الحرية التي يتوهمها إنما ينفذ تفاعلات لغوية لا يستطيع الإمساك بقوانينها وما ستؤول إليه في أغلب الأحيان. هل فعلا نحن نعيش زمن الرواية؟ أعتقد أن هذا زمن الرواية فالحياة التي نعيشها والتحولات المجتمعية المتداخلة والعولمة الجديدة وحياة المدينة الطاغية كلها تجعل من تشابك العلاقات سمة غالبة علينا، ولذلك فالتعبير عن هذه الحياة إنما يتأتى بصفة أقرب إلى الواقع بطريق الرواية لما فيها من حرية لغوية وإمكانات فكيف مثلا نعبر عن كل هذا بالكتابة الشعرية؟ غير أن للشعر مكانا في الرواية وهو الذي يضفي على اللغة رونقها وطلاوتها وعذوبة مأتاها ومن هذا المنظور يصبح الروائي الذي كتب الشعر محظوظا لأنه يستفيد من رؤيته الشعرية ويطوعها لفائدة نصه الروائي، ولا يفوتني القول بأن الشعر باق ما بقيت الحياة وكأنني به أصبح للنخبة مهربا أو ملجأ وأعتقد أن البشرية جمعاء ستعود إلى الشعر خاصة لافتقارها الشديد إلى الروحانيات بعد أن صدمها الواقع، وانبه إلى بعض الفوارق التي بيننا نحن العرب وبين الشعوب الأخرى في تعاملها مع اللغة وميلها إلى نمط أدبي على حساب الآخر. كيف توفّق بين الإبداع بما يعنيه من حرية والبحث بما يتطلبه من دقة؟ يتطلب البحث الدقة في التعامل مع الظاهرة اللغوية وإعطاء كل جزئية أهميتها وهذه الصرامة هي الضامن للوصول إلى النتائج الأقرب إلى حقيقة الأشياء أما الإبداع فهو محض حرية ولعب باللغة وانتقال من فكرة إلى أخرى والتساوق بينهما هو الذي يتيح الراحة الذهنية ويشحذ الذهن والعقل بما يسمى لذة النص كما يقول رولان بارت وقد ثبت أن العقل البشري بحاجة إلى هذين القطبين ليتم الشعور بالتوازن والامتلاء كما ثبت أن المخ نصفان العقل والصرامة من جهة و من جهة أخرى الخيال والإبداع، وأنا والحمد لله أعتقد أنني حققت هذا التآلف خاصة عندما قمت بتحليل نفسي ذاتي لشخصيتي وقمت بتجارب نفسية لغوية بحكم اهتمامي وتخصصي أيضا في علم النفس اللغوي. أنت مهتمّ بتدريس الترجمة كيف ترى واقع الترجمة في العالم العربي؟ أثرت موضوع الترجمة وهو شاسع ويتطلب وقتا ضافيا لما له من إشكالات فمن ناحية الواقع نحن مقصرون جدا طالما لا نترجم الكتب المهمة الصادرة هنا وهناك ونحن أصلا شعب لا يقرأ وأقول هذا بحزن ويعود هذا إلى أسباب عديدة تاريخية واقتصادية وثقافية، أما من ناحية مضمون الترجمة وتقنياتها وإمكاناتها الداخلية فهي علم قائم بذاته ويتطلب فهما دقيقا للغة التي ننقل منها واللغة الحاضنة أو لغة الوصول وذلك باعتماد القاعدة الثلاثية التي تبدأ بالنص الأصلي مثلا الفرنسي وترجمته إلى العربية ثم العودة من النص المترجم إلى العربية والذهاب به عبر الترجمة إلى لغته الأصلية الفرنسية فإذا حصلنا على نصين مختلفين فإن الترجمة غير دقيقة وتسمى اقتباسا أو تلخيصا وربما نسخا وخيانة للنص الأصلي، فهل نريد بالترجمة ترجمة الأفكار من الناحية الدلالية ومعانيها أو ترجمة اللغة بأساليبها البلاغية والبيانية؟ أعتقد أنه علينا تنشيط وتفعيل حركة الترجمة من العربية وإليها حتى نقف على العلوم والأفكار والحضارات ونمكن الناس من الاطلاع والانخراط في العلم، وهناك محاولات جادة في العالم العربي ولكنها شخصية وتكلف الكثير من الجهد والمال طالما هي محاولات فردية لا ترقى إلى العمل المنتظم والمتواصل والهادف والمدروس وأقترح في هذا المجال إضافة معاهد ومؤسسات تخصص للترجمة ويعمل بها متفرغون ذوو مقدرة وخبرة مثلا دار الترجمة بها إدارة وهيئة بحث ومترجمون مائة ينشرون مائة كتاب كل سنة، لا تقل بأنني أحلم ولكن هذا ما يجب علينا حقا فعله لنلتحق ولو قليلا بمن سبقنا في هذا المجال. كيف ترى المشهد الثقافي في تونس؟ يبدو المشهد الثقافي في تونس ذا حركية وتراكم وهذا مؤشر جيد، غير أن للإبداع شروطا منها جودة ما نكتب ونضيف، فإذا ما كنا نكتب لمجرد الكتابة فما هي الجدوى؟ على المبدعين والكتاب احترام القارئ وعدم الإلقاء السريع بما يكتبون لأن هذا التراكم قد يضر بالكاتب نفسه ويسرع في إقصائه عمليا فيفرد أفراد البعير المعبد ويصبح مبعث نفور، الشعراء الجاهليون كانوا يعمدون إلى ترك شعرهم يستريح وسموه بالحوليات ويلقونه على الناس بعد سنة حتى يتمكنوا من وعيه و استبطانه وهضمه ولكي لا يقعوا في مطب التفاهة أو النقص، وأنوه بأن لنا كتابا قديرين في الرواية والشعر وعلينا الاهتمام بالنقد أكثر حتى يتم التساوق بينها ونظفر بالقارئ المبدع حيث يتحقق الجمع بين كل الأطراف المعنية ويتم الانصهار الذي هو في الحقيقة غائية لا مناص منها. ما هو المشروع الذي يشغلك الآن؟ أنا الآن بصدد العودة إلى نصوصي ومخطوطاتي من روايات وشعر ومقالات وترجمات ولعل الوقت يسعفني بنشر البعض منها وهو جاهز ويتطلب بعض المراجعات، وأعترف في هذا المقام بأنني أميل إلى الصفوية اللغوية وإعطائها حظها فهي الوعاء للأفكار وهي الحاملة للتراث وهي الضامنة للدقة في التعبير إذا ما استخدمناها خير استخدام. كيف عشت تجربة العودة إلى نفطة بعد سنوات طويلة من الغياب؟ عدت إلى نفطة منذ سنة وكأني أعود إلى نفسي، إلى طفولتي إلى دهشتي الأولى أمام الموجودات بعد هجرة وغياب دام أكثر من ثلاثين عاما إلى فرنسا تحديدا ومنها إلى بقاع العالم وهي تجربة فريدة غنية أمكنتني من نسج علاقات واسعة والاطلاع على حضارات وأنا أعتزّ بأصدقائي في كل مكان وأوجه لهم تحية واعترافا لأن كل العلاقات هي في الحقيقة تواصل وصلة واتصال وتفاعل ومحبة وأنا الآن أدرس بجامعة قفصة وأسكن بنفطة على مسافة خمسين مترا من البيت الذي ولدت فيه وقريبا من بيت والدي وإخوتي وأخواتي وأشعر بالتوازن والهدوء خاصة عندما أتجول وأحيي الناس ويحبونني ويسألون عني وحين ألاقي الأصدقاء القدامى ونستعيد بعضا من حياتنا الماضية بنظرة أخرى، ولا يذهبن بك الظن إلى اعتبار هذه النظرة طوباوية أو عائدة إلى الماضي فحسب لأنني واع بواقعي وأتفاعل معه وأحاول من موقعي التأثير ونقل بعض التجارب إلى الآخرين إذ من حقوق المواطنة الانخراط في المجتمع كما أنني أريد إعطاء بلدي تونس كل ما أستطيع خدمة للفكر والثقافة والأدب وهو دين لها علي.