وزارة التجهيز: تحويل في الطريق الوطنية عدد 8 بداية من يوم الاثنين القادم    ملعب حمادي العقربي يفتح أبوابه الوقت هذا.. شنوة لازم تعرف قبل ما تمشي!    معهد الرصد الجوي يضع عددا من المناطق في الخانة الصفراء    أمطار وبَرَد في عز أوت: تقلبات مفاجئة تضرب 13 ولاية تونسية    18/20 وُجّه لعلوم الآثار بدل الطب... تدخل وزاري يعيد الحق لتلميذ باكالوريا    الإدارة العامة للأداءات تنشر الأجندة الجبائية لشهر أوت 2025..    شراو تذاكر ومالقاوش بلايصهم! شنوّة صار في باب عليوة؟    زغوان: حجز 735 كلغ من الأسماك الفاسدة كانت داخل براميل بلاستيكية كبيرة الحجم    عاجل/ زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب هذه المنطقة..    عاجل/ القبض على "بلوجر" معروفة..وهذه التفاصيل…    عاجل/ وزارة الفلاحة توجه نداء هام لمُجمّعي الحبوب وتقدّم جُملة من التوصيات للفلاحين..    عاجل/ تزايد محاولات القرصنة..ووكالة السلامة السيبرنية تحذر..    نقابة الصحفيين : مقاطع الفيديو المتعلقة بجماهير المهرجانات والمتداولة ليست لصحفيين محترفين ويجب احترام أخلاقيات المهنة    كيف حال الشواطئ التونسية..وهل السباحة ممكنة اليوم..؟!    عاجل/ شبهات اختراق وتلاعب بمعطيات شخصية لناجحين في البكالوريا..نقابة المستشارين في الإعلام والتوجيه الجامعي تتدخل..    عاجل/ الحماية المدنية تُحذر من اضطراب البحر حتى وإن كان الطقس مشمساً..    غدًا.. الدخول مجاني لجميع المواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة    جامع الزيتونة ضمن السجل المعماري والعمراني للتراث العربي    الشاب بشير يمتع جماهير مهرجان سلبانة الدولي    تحذير: استعمال ماء الجافيل على الأبيض يدمّرو... والحل؟ بسيط وموجود في دارك    وزير التعليم العالي يتدخل وينصف التلميذ محمد العبيدي في توجيهه الجامعي    اتحاد الشغل يؤكد على ضرورة استئناف التفاوض مع سلطات الإشراف حول الزيادة في القطاع الخاص    "تاف تونس " تعلن عن تركيب عدة اجهزة كومولوس لانتاج المياه الصالحة للشرب داخل مطار النفيضة- الحمامات الدولي    المنظمة الدولية لحماية أطفال المتوسط تدعو إلى سنّ ضوابط لحضور الأطفال في المهرجانات والحفلات    غازي العيادي ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولي: ولادة جديدة بعد مسيرة فنية حافلة    مونديال الكرة الطائرة تحت 19 عاما - المنتخب التونسي ينهي مشاركته في المركز الثاني والعشرين    أحمد الجوادي في نهائي 1500 متر: سباحة تونس تواصل التألق في بطولة العالم    كيفاش أظافرك تنبهك لمشاكل في القلب والدورة الدموية؟    شنية حكاية ''زكرة بريك'' اللي خوّفت جدودنا؟    الفنان "الشامي" يحقق نجاحا جماهريا باهرا ضمن فعاليات الدورة 45 لمهرجان صفاقس الدولي.    توقعات موسم أوت - سبتمبر - أكتوبر 2025: حرارة أعلى من المعدلات واحتمالات مطرية غير محسومة    جثمان متحلل بالشقة.. الشرطة تكشف لغز اختفاء عم الفنانة أنغام    طقس اليوم: أمطار رعدية متوقعة وارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة بالجنوب    نواب أمريكيون يدعون ترامب لإنهاء الحرب في غزة    بعد إيقاف مسيرتها.. أنس جابر تتفرغ للدفاع عن أطفال غزة    الرضاعة الطبيعية: 82% من الرضّع في تونس محرومون منها، يحذّر وزارة الصحة    مباراة ودية: تغيير موعد مواجهة النجم الساحلي والنادي البنزرتي    البطولة العربية لكرة السلة - المنتخب الجزائري يتوج باللقب    النادي الإفريقي يعلن تعاقده رسميا مع "فوزي البنزرتي"    موجة شهادات مزورة تثير تداعيات سياسية في إسبانيا    كولومبيا.. تعيين ممثل أفلام إباحية وزيرا للمساواة    محمد رمضان يرد على الشامتين بعد انفجار حفله الغنائي: "اللي معندوش كلمة طيبة يخرس!"    بطاطا ولا طماطم؟ الحقيقة إلّي حيّرت العلماء    سهرة قائدي الأوركسترا لشادي القرفي على ركح قرطاج: لقاء عالمي في حضرة الموسيقى    عاجل : القضاء الأميركي يوقف ترحيل آلاف المهاجرين: تفاصيل    الحوثي يستهدف مطار بن غوريون بصاروخ باليستي    الرابطة الأولى: قطيعة بالتراضي بين فادي سليمان ومستقبل قابس    عرض كمان حول العالم للعازف وليد الغربي.. رحلة موسيقية تتجاوز الحدود    القصرين: منع مؤقت لاستعمال مياه عين أحمد وأم الثعالب بسبب تغيّر في الجودة    تاريخ الخيانات السياسية (33) هدم قبر الحسين وحرثه    أعلام من بلادي: الشيخ بشير صفية (توزر): فقيه وأديب وشاعر درس في الجزائر وتونس    دكتورة في أمراض الشيخوخة تحذّر من اضطرابات المشي لدى كبار السن المؤدية إلى السقوط    انتعاشة هامة للسياحة/ هذا عدد عدد الوافدين على تونس الى 20 جويلية 2025..    وزارة الصناعة تمنح شركة فسفاط قفصة رخصة البحث عن الفسفاط " نفطة توزر"    وزارة التجارة تعلن عن تحديد أسعار قصوى للبطاطا وهوامش ربح للأسماك بداية من 4 أوت    هل يمكن لمن قام بالحج أن يؤدي عمرة في نفس السنة؟    شنوّة جايك اليوم؟ أبراجك تكشف أسرار 1 أوت!    خطبة الجمعة: أمسِكْ عليك لسانك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنديل الثاني: الدكتور شكري المبخوت ل«الشروق» 2/2: ما معنى أن تعود النظريات الحديثة باستمرار إلى أرسطو وغيره، ويتهم من يعود إلى الفرابي وسيبويه بالتراثي؟
نشر في الشروق يوم 05 - 01 - 2010

إن الكلمة تساهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع شديد في ضمير الفرد. إذ تدخل إلى سويداء قلبه. فتستقر معانيها فيه لتحوله إلى إنسان ذي منهج ورسالة، مع الدكتور شكري المبخوت نعود ثانية إلى بحور اللغة ، حيث يتساءل عن «قدرة اللغة على أن تقول كل شيء يريد القائل أن يقوله. مما يجعل مفهوم شفافية اللغة في أزمة خطيرة. إذ ما هي حدود اللغة؟» ورغم التساؤل فهو يعمل على تبسيط اللغة العربية عبر بحوثه و ترجماته. لأنها «أفق الإنسان العربي تسكن ذاكرته وتلهب وجدانه، فيضرب فيها تائها ويعشقها بلا دليل».
بما أننا تغيبنا أسبوعا عن الحوار فلنعود «بسيرة الغائب» والذي صدر عن دار الجنوب في سلسلة «مفاتيح».
في الأصل « سيرة الغائب، سيرة الآتي « نتاج تدريس طه حسين في كتاب « الأيام « للطلبة. حدث معي ما حدث مع المسعدي، فقد وجدت «الأيام» كتابا مضجرا. كنت منذ قراءتي الأولى في سن المراهقة.أجد أسلوبه ثقيلاً مملا. وفي الآن نفسه خلق هذا الكتاب ضربا من التعاطف مع الصبي. لكن فرصة تدريس الكتاب فتحت الأعين على قراءة لبعض أسرار هذا النص المؤسس في باب السيرة الذاتية. فربما كان الطفل الذي كره طه حسين في قراءته الأولى يبحث في الكتاب عما سماه بارت «لذة التلميذ» أي تلك المواطن الحميمية التي تغري بتتبع الروايات. والأيام خالية من هذا، لأنه كتاب سيرة عقلية وسيرة تعلم وكفاح.أكثر منه كتاب بوح وإفضاء، لكن الكهل الذي قرأ هذه السيرة، قراءة بحث فيها بإستعمال مناهج النقد الحديث ومفاهيمه والسيرة الذاتية، وألعاب السرد والزمن والتلاعب بالشخصيات والرواة... كان يبحث عن لذة أوديبية بعبارة بارت. فاستحال النفور الأول إلى إنبهار بقدرة طه حسين على أن يصنع نصا فريدا في باب السيرة الذاتية لا نظن أننا كشفنا منه إلا القليل .ولكن هذا الكتاب بقطع النظر عما إصطنعته فيه من مناهج ومفاهيم في النقد. كان محاولة لكتابة نص يجمع إلى صرامة الباحث الأكاديمي، الإشتغال على أسلوب كتابة العلم بلغة غير خشبية بمنطق الكتابة العلمية. التي عادة ما تعتبر جافة. وربما أحب القرّاء جانب الاسلوب البحثي أكثر من المحتوى.
كيف تتعامل مع الترجمة؟
الترجمة عندي تمرين شيق ومرهق. فالذهاب إلى عوالم النصوص التي يكتبها الآخرون فيه اكتشاف للآخر. واكتشاف لقدرتنا على أن نقول بلساننا شيئا مما أحببناه في نصوص الآخرين. والمفارقة أنني شخصيا لا أؤمن بالترجمة على أنها مفتاح إتصالنا بالثقافات الحديثة. أنا ممن يؤمن بأننا نضيع وقتا كبيرا في الترجمة. في حين أن النصوص العلمية بالخصوص يتسارع نسق نشرها، بوتيرة تجعلنا دائما عاجزين عن ملاحقتها. فالأفضل أن يكون المتعلم العربي قادرا على الإطلاع مباشرة من خلال أي لغة عالمية. خصوصاً الانڤليزية. فالجهد المبذول في الترجمة ينبغي أن يتجه إلى البحث بعد الإطلاع على الأصول.
لكن هذه الفكرة تناقض التوجهات العالمية عبر الثقافات فيما يخص الترجمة؟
أعتقد أن وضعية العرب وضعية خاصة. لا تسمح بتلافي ملاحقة الآخر فيما يبدع بواسطة الترجمة. وهنا أتحدث عن ترجمة النصوص العلمية. ورغم ذلك شاركت في توفير بعض النصوص بالعربية. إما لأسباب ذاتية. مثل نص «تخييل الأصول» لفتحي بن سلامة الذي أعجبني والذي أعتقد فتحي بن سلامة أنه لا يمكن أن يؤدى بالعربية رغم حبه للغة الضاد. فبدأت فكرة ترجمة الكتاب بضرب من التحدي. وكانت النتيجة مفاجأة للصديق فتحي. وإما من باب الإسهام في توفير مدونة مرجعية لغير الناطقين بالفرنسية من إخوتنا في المشرق. وتوجد بعض النصوص أنا بصدد ترجمتها لاختيارات ذاتية ومؤسسية في الآن نفسه. لكن عموماً ما يهمني هو أن يكون النص العربي مقروءا سلسا حتى يؤكد أن العربية هي أيضا لغة تصلح لصياغة خطاب علمي حديث.
كتابات وتراجم ثم توجهت إلى البحوث اللسانية؟
سبب التحول سببان. أولا كنت أشعر بضيق شديد في الدراسة النقدية، لأن المناهج تحجرت وبدت لي آفاق البحث النقدي مسدودة. ولم يبق إلا القول الفلسفي قادرا على أن يعبر عما كنت أتوهمه سرا في الأدب. أما وجود بحث يبرز أدبية النصوص من داخلها،فهو مشروع علمي انتهى منذ انتهاء البنيوية، ثم إنني جربت نظرية التقبل وبعض التوجهات الإجتماعية في دراسة الأدب، فبدت لي أيضا في مأزق، إضافة إلى ذلك كنت أعتقد وما أزال أن الأدب مجال للمشاركة الوجدانية والتفاعل النفسي مع مايقترحه من عوالم فاتنة ، وما يفتحه للقارئ في عزلته من آفاق رحبة، تعيده إلى نفسه يسألها. فيسافر معها في فضاءات الإستعارة والتخييل.أما الدراسة النقدية المنهجية التي تحترم أصول النظريات وتفاصيلها.حتى إذا طعمناها بحساسية جمالية. فإنها إستدعاء للنصوص إلى فضاء الألفة. حيث يوضع النص على سرير بروكيست النقدي، ليفقد النص طاقته الجمالية على النفي. فينضبط احتراما لمؤسسة النقد. كما انضبط نص المسعدي لمؤسسة المدرسة.
السبب الثاني: أنني وجدت الدراسات اللسانية مجملة بطاقات شعرية إستثنائية. رغم الجفاف البادي عليها لأول وهلة.فاللسانيات محاولة للدخول في أغوار اللغة لاستكشاف قدرتها على أن نقول بها الصدق والكذب. وأن نقول بها الشعر والعلم. وأن نعبر بها عما في الوجدان.وننظم بها في الآن نفسه الكون تنظيما عقلانيا. فليس معنى هذا أن اللغة محايدة تقبل كل شيء. ولكنه يعني في تقديري أنها بأنظمتها الفرعية وقواعدها تتيح لنا أن نعبر عن إنسانيتنا. وأن نجلو من خلالها ما يتضمنه ذاك العضو الصامت الهادر في آن واحد. الذي نسميه الدماغ. فأسرار اشتغال اللغة لا متناهية. وتلخص تطور الكائن البشري بيولوجيا وثقافيا عبر التاريخ. لذلك قلت إن عالم اللسانيات على ما يبدو فيه من جفاف. عالم يسمح للباحث أن يوظف خياله وعقله وحدوسه وتقنيات البحث. ليكتشف من خلال ذلك كله كيف يقول باللغة ذاته. وكيف يتفاعل مع الذوات الأخرى. وكيف يبني بهذه اللغة الكون ويتعامل معه. فما الشعر إن لم يكن هذا كله.
في دراستك للأعمال اللغوية هل إعتمدت الجانب التراثي للغة؟
كان الإهتمام بالجانب التراثي في اللغة وتحديدا البلاغي العربي، حاولت أن أعيد التفكير فيه من زاوية حديثة. وجوانب حديثة تتصل بنظرية الأعمال اللغوية، وتناولها بالاستفادة من النظريات الجزئية، والمعطيات الثرية التي نجدها في التراث النحوي والبلاغي العربي. معنى هذا أنني وجدت نفسي في موقع علمي وحضاري، يمكنني من إستغلال الثنائية اللغوية، والثنائية الثقافية، والثنائية العلمية لمحاورة التراث، وخلخلة إشكالياته، بإدراجه ضمن مدارات الأسئلة العلمية الراهنة. لأن التراث في حد ذاته لا يهمني علميا. وأصدقك القول إن علاقتي به ليست علاقة وجدانية. بقدر ماهي علاقة انبهار بقدرة أولئك الشيوخ من النحاة والبلاغيين على صياغة أفكار ونظريات ومنوالات علمية قوية،قابلة إلى اليوم للتوظيف إذا أحسنا الإنصات إليها، وسألناها من منطلق الهواجس العلمية الراهنة. وأعتقد أن العلاقة المتوترة في الغالب مع التراث ، تقديسا له أو طعنا فيه، لا تدل إلا على قلة اطلاع، أو عجز عن تفهمه لتوظيفه في حل مشكلاتنا العلمية والحضارية اليوم. فما معنى أن تعود آخر النظريات الحديثة بإستمرار إلى أرسطو وغيره من قدماء الثقافة الغربية ويتهم من يعود إلى الفرابي أو سيبويه أو الجرجاني وغيرهم بأنه تراثي. فالتراثيون وما أكثرهم في العالم العربي هم الذين لا يستطيعون أن يعوا التراث بغير النظارات التراثية. فيقتلون التراث وينقطعون عن العالم الحديث. وفي الآن نفسه وجدت نفسي وأنا أتعامل مع النظريات الحديثة في مجال التداولية عموما. ونظرية الأعمال اللغوية خصوصا. غير قادر على التسليم بها كما صاغها أهلها، لأن ما أمكنني الإطلاع عليه من التراث البلاغي العربي. أبرز لي أن القضايا الكبرى والأفكار المخصبة لا تقاس بالقرون. وإنما تقاس علميا بالبساطة والتناسق والنجاعة في معالجة الظواهر اللغوية. فليس الأمر موازنة ومقارنة بين القديم والحديث الغربي. وإنما هو تفاعل مأتاه تلك الثنائية التي حدثتك عنها. والمهم أن يكون نتاج هذا التفاعل قولا مثريا للفهم.
رولان بارت في درسه الإفتتاحي يميز بين التدريس الجامعي والبحث. إذ يقول: «يمر علينا الزمن ندرس في الجامعة ما نعرف، ويأتي علينا الزمن ندرس ما لا نعرف، وذلك ما أسميه «البحث». فهل أن الجامعة تساهم في تكوين ذهنيات بحثية بالمعنى البارتي، أم مجرد جملة معرفية هدفها الرئيس الحصول على الوجاهة الأكاديمية؟
بالنسبة للجامعة لا يمكن فصل البحث عن التدريس، فكرة بارت صحيحة، لأن الدرس الجامعي الذي يحترم نفسه، ويحترم مقام الجامعة هو جزء من البحث. لأننا نسعى إلى أن نقدم إلى الطالب أرقى المعارف الممكنة، سواء فيما نطلع عليه من نظريات علمية حديثة، أو نتاج تفكيرنا الشخصي في هذه النظريات. بطبيعة الحال يعود هذا أن من وظائف الجامعة تناقل المعرفة الحديثة. لكن لمقتضيات بيداغوجية، هناك حد أدنى من التكرار، ومن التذكير بالبديهيات، وإعادة أفكار الآخرين. وهو أمر لا يتناقض مع السعي إلى جعل قاعة الدرس مختبرا، نجرب فيه بمقدار مدى وجاهة أفكارنا الشخصية. لنطور مع طلبتنا هذه الأفكار والتصورات، وإلا لأصبح الدرس الجامعي مجرد تلقين لمعلومات جاهزة. فالمسألة ترتبط بحيوية الفكر لدى المدرس، وقدرة الطلبة على التفاعل لإنتاج روح البحث. لأن الأفكار يمكن تهديمها وتجاوزها كلما تطور البحث. ولكن تلك الروح هي التي تتنقل من المدرس الباحث إلى الطالب الذي يستطيع أن يدركها. بهذا المعنى لا يمكن التسوية بين جميع مستويات الدراسة الجامعية. وربما قصد بارت تكوين الباحثين في المرحلة الثالثة التي من أغراضها تهيئة الباحث للبحث. أما مسألة الوجاهة الأكاديمية، فهي جزء من قضية إجتماعية أشمل. إذ لا يمكن أن يصبح جميع الطلبة باحثين بالمعنى الدقيق للبحث العلمي.
هناك علاقة جدلية بين الجامعة والوسط الأدبي؟
لا يمكن التعميم في مفهوم الجامعة. لأن المقصود بسؤالك تحديدا هي الجامعات التي فيها إختصاصات أدبية، خصوصا العربية وإلى حد ما الفرنسية. فالمشكلة لا تطرح في اللغات الأخرى, لا تطرح أيضا فيما يخص الجامعات التي تقدم إختصاصات علمية أو إقتصادية أو تكنولوجية. ورغم ذلك فإن عديد الجامعيين يساهمون بطريقة ما في أنشطة المؤسسات الثقافية. والمؤسسات الإعلامية. لذا تجاوزنا هذا. يشتكي أحيانا الأدباء أنهم لا يدرسون نصوصهم ولا يدرسونها. ونجد حديثا عن غياب الأدب التونسي من الجامعة التونسية. وعدم إحتفاء الجامعيين بالكتابات الشعرية والروائية والقصصية... لا أفاجئك إذا قلت أن الباحث الجامعي في مجال الأدب ليس بالضرورة ناقدا أدبيا. قد يكون مؤهلا بحكم معرفته للنظريات والمفاهيم لتحليل النصوص الأدبية وإبداء الرأي فيها. لكن النقد الأدبي ليس جزءا من وظيفته الجامعية. فللباحث الجامعي مهام لا تلتقي إلا قليلا مع مهام الناقد الأدبي. ليس في تونس فحسب. وإنما في كبار النقاد الفرنسيين الذين يستشهد بهم الأدباء. وربما يعود الأمر في جانب منه إلى خلط في البلاد العربية عامة بين المجالات الأكاديمية والثقافية والإعلامية. ففي بعض البلدان نجد جامعيين يؤدون وظائف في الإعلام المكتوب أو المرئي والمسموع. يقومون بأنشطة في المؤسسات الثقافية. وهو أمر حسن شريطة أن يلتزم الجامعي بمواصفات الكتابة في كل مجال من هذه المجالات الثلاثة. ومع الأسف يصبح الخطاب الأكاديمي أحيانا لمثل هؤلاء الجامعيين خطابا ثقافيا أو إعلاميا. رغم أنه يقدم في منابر أكاديمية. فإغراء الإعلام والإنتشار لدى القراء والمشاهدين كبير. وكثيرا ما ينزل بمستوى الباحث حين يكتب بحوثاً أكاديمية. والأمثلة كثيرة في العالم العربي. ومشكلتنا في تونس أن بعض الجامعيين يتقدمون إلى الفضاءات الثقافية والإعلامية بصفاتهم الأكاديمية. وبترسانة المفاهيم والمناهج التي يدرسون بها. ليعالجوا قضايا ثقافية أو ليقدموا آراء نقدية حول الكتابات الأدبية. أو ليساهموا في الصحف. فيخلقوا حالة من الإرتباك من مظاهرها إحساس عموم الأدباء والمثقفين والفاعلين في المجال الثقافي والإعلامي عامة. بتعالي الجامعيين وإستعمالهم لسلطتهم المعرفية في غير محلها. فلا شك أن مثل هذا السلوك مزعج. ويخلق أجواء مشحونة، ويطرح قضايا زائفة بين الجامعة وأهل الأدب والثقافة. ولكن من زاوية أخرى لا أحمل لوم الأدباء على الجامعيين إلا مثل هذا الضرب من سوء التفاهم. فكأن الجامعي حين يكتب عن نص أدبي، يمنح لذلك النص بمقتضى السلطة المعرفية سواء صحيحة أو زائفة نوعا من المشروعية في المؤسسة الأدبية. سوء التفاهم في جانب آخر منه يعود إلى عدم تطابق إنتظارات المبدعين وإنتظارات الجامعيين. بقدر ما يعود إلى تداخل الخطابات. ورغم ذلك فإن الحديث عن عدم تدريس الأدب في المدرسة أو الجامعة. ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو مجرد إستشهاد. وربما كان التدريس الأدبي مضرا بالأدب. وإن خلق أسماء ستظل مجرد ذكرى مدرسية. مثلما ذكرت لك حول تدريس المسعدي.
هل لديك إهتمامات فنية أو أدبية خارج اللغة والبحوث؟
أحب الفن عامة. ربما لا أفهم كثيرا في الفن التشكيلي، هناك أشياء تبهرني دون متابعة خاصة. لكن أحب الموسيقى، الأدب، المسرح، السينما. ومن قراءاتي الممتعة: الشعر والرواية. أحب الشعر المجدد حتى في الشعر الحديث. خاصة التجربة التجديدية، وقصيدة النثر. أميل للرواية في المطلق فهي الجنس الوحيد القادر أن يعبر بشكل ممتع عن تردد الإنسان بين ضعفه وقوته بعيدا عن النمطية. مثل نجيب محفوظ، علي بدر، زكريا ثامر، يوسف إدريس، الطيب صالح، غالب هلسا ، وربما كان إلياس خوري المفضل عندي...
هل كتبت الشعر؟
محاولات. توقفت لأنني وجدت أنني مسكون بدرويش، حولت طاقتي الشعرية إلى دروب أخرى من الكتابة، وقد نشرت بعض قصائدي بأسماء مستعارة. كنت أخجل نشر ما كتبت مقارنة بكبار الشعراء.
كنت استاذا للغة في كلية العلوم الإنسانية بمنوبة ، واليوم أنت عميد الكلية منذ سنة 2005 . هل هناك فرق بين العمادة والتدريس بالنسبة لك؟
طبعا هناك فرق، لأن العمادة وظيفة ولو أكاديمية. فخصوصية الجامعة أن يسيرها أهلها الجامعيون. لذلك فهو من باب الدفاع عن التقاليد الجامعية وإستقلالية الجامعة وخصوصياتها. موقع العمادة يفرض نوع من الإستمرارية، لتوفير ظروف عمل أكاديمي لا يعرف خصوصياته إلا أهله.
هل تعتقد أن الجامعة مستقلة؟
نعم. إستقلالية الجامعة اليوم منصوص عليها في القانون. لكن جهات كثيرة تسعى إلى ضرب استقلاليتها . خصوصا في هذه التحولات الكبرى الجذرية في قطاع التعليم العالي. وفي غياب حوار وطني حول الجامعة وقضاياها. واكتفاء سلطة الإشراف بإدارة الشأن الجامعي. دون إحترام لأصول التعامل مع الجامعيين منذ خمس سنوات.
بعد هذه المسيرة من الحياة . لو رسمت خطوطها ثانية، كيف ستكون؟
« كان ما سوف يكون».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.