قدم طه حسين كتابه (الأيام)، الذي روى فيه قصة حياته، في الطبعة الخاصة بالمكفوفين المعروفة بطريقة (برايل) التي تُقرأ بالأصابع لا بالنظر، وقد قصَّ فيها الباعث على كتابة (الأيام) وهذه المقدمة لم يقرأها المبصرون إلا بعد عقود من الزمان عندما ترجمت إلى المبصرين بالحروف التي يستطيعون قراءتها، ومن بين ما قال فيها: (ليس أحب إلى نفسي ولا أحسن موقعا في قلبي، مِن أنْ يُقدَّمَ هذا الكتاب إلى زملائي وأصدقائي في هذه المحنة، ولا أرى فيها قسوة أو شيئا يشبه القسوة. وإنما هي آفة من الآفات الكثيرة التي تعْرِض لبعض الناس في حياتهم فيؤثِّر فيها تأثيرا قويًّا أو ضعيفا. والذين يقرؤون هذا الحديث من المكفوفين، سيرون فيه حياةَ صديقٍ لهم في أيام الصبا تأثر بمحنتهم هذه قليلا قليلا حين عرفها، وهو لم يعرفها إلا شيئا فشيئا حين لاحظ ما بينه وبين إخوته من فرق في تصور الأشياء وممارستها). صُدِّرت هذه الطبعة التي نشرت في مجلد واحد في سنة 1991، بمقدمة كان طه حسين قد خص بها زملاءه في محنة فقْد البصر، منقولة من الكتابة بطريقة (برايل)، إلى الحروف العربية، ونشرت لأول مرة ليتمكن من قراءتها المبصرون. وقد علق (الناشر) في حاشيتها: (كتب الدكتور طه حسين هذه المقدمة بمناسبة صدور طبعة من كتاب الأيام للمكفوفين. وقد رأينا نقلها عن هذه الطبعة. وهذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها). قال طه حسين متحدثا عن ظروف كتابة (الأيام): (هذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ لم أكن أريد أن يصدر في كتاب يقرؤه الناس، ولم أكن أريد أن أعيد قراءته بعد إملائه وإنما أمليته لأتخلص بإملائه من بعض الهموم الثِّقال والخواطر المحزنة التي كثيرا ما تعتري الناس بين حين وحين. وللناس مذاهبهم المختلفة في التخفيف من الهموم والتخلص من الأحزان، فمنهم مَن يتسلَّى عنها بالرياضة، ومنهم من يتسلى عنها بالاستماع إلى الموسيقى والغناء، ومنهم من يذهب غير هذه المذاهب كلها لينسى نفسه ويفر من حياته الحاضرة وما تثقله من الأعباء. ولست أدري لماذا رجعت ذات يوم إلى ذكريات الصبا، أتحدث بها إلى نفسي لأنسى بهذا الحديث أثقال الشباب. ثم لم أكتف بالتحدُّثِ إلى نفسي فيما بيني وبينها، وإنما تحدثت إليها حديثا مسموعا، فأمليت هذا الحديث على صاحبي في رحلة من رحلات الصيف، ثم ألقيته جانبا ونسيته أو كدت أنساه. ثم طلبت إليّ (مجلة الهلال) في عهدها الماضي طائفة من الأحاديث وألحّتْ في الطلب حتى لم أجد بدا من إجابتها ولم أك أملك الوقت الذي يتيح لي أن أكتب الأحاديث التي أرادتني عليها فعرضت هذا الكلام على بعض الأصدقاء ليقرأه ويشير عليَّ فيه، أيصلح للنشر أم لا يصلح؟ فقرأه الصديق وأشار علي بألاّ ألقي إليه بالا. فاعتذرت إلى الهلال ولكنها أبتْ إلا الإلحاح، فدفعت إليها هذا الكلام على كرهٍ مني، وقد نشرته، فرضي عنه بعض الناس ثم جمعه بعض الأصدقاء في سِفرٍ واحد. وكذلك وُجِد هذا الكتاب على غير إرادة مني لوجوده، وما أكثر ما تحدثت بهذا الحديث إلى الذين قرؤوا هذا الكلام، فمنهم مَن صدّقه ومنهم من أنكر. وأنا مع ذلك لم أقل إلا الحق، ومهما يكنْ من شيء، فقد وُجِد كتاب (الأيام)، وأضيف إليه جزء ثانٍ، كُتب على نحو ما كُتِبَ الجزء الأول. وقد أشار طه حسين إلى تأثره بمحنة فقد البصر متحدثا عن نفسه بضمير الغائب فقال: (وقد تأثر بهذه المحنة تأثرا عميقا قاسيا، لا لشيء إلا لأنه أحس من أهله رحمة له وإشفاقا عليه، وأحس من بعض إخوته سخرية منه وازدراء له، ولو قد عرف أهله كيف يرعونه دون أن يُظهروا له رحمة أو إشفاقا، ولو قد كان الناس من رُقي الحضارة وفهْم الأشياء على حقائقها بحيث لا يسْخرون من الذين تعتريهم بعض الآفات، لا يَرْثون لهم ولا يُظهرون لهم معاملة خاصة يتكلفونها تكلُّفا، ولو قد كان من هذا كله، لعرف ذلك الصبي وأمثاله محنتهم في رفق، واستقامت حياتهم بريئة من التعقيد، كما تستقيم لكثير غيرهم من الناس. والحمد لله على أن هذا الصبي لم يستسلم للحزن ولم تدفعه ظروفه إلى اليأس وإنما مضى في طريقه كما استطاع أن يمضي، محاولا الخير لنفسه وللناس ما أُتيح له أن يحاول من الخير. وما أكثر الذين قَهروا هذه المحنة خيرا مما قهرها، وانتصر عليها خيرا مما انتصر عليها، وقدموا لأنفسهم وللناس أكثر وأنفع وأبقى مما قدم، ولكن كل إنسان ميسَّرٌ لما خُلِق له، ولا يبذل من الجهد إلا ما تَبْلُغه طاقتُه. وأنا أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفون في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة كما وجدت في إملائه وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعا لهم على أن يستقبلوا الحياة مبتسمين لها كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس، جادّين فيها لينفعوا أنفسهم وينفعوا غيرهم، متغلبين على ما يعترضهم من المصاعب وما يقوم في سبيلهم من العقبات بالصبر والجهد وحسن الاحتمال وبالأمل المتصل والرجاء الباسم. فالحياة لم تُمنح لفريق من الناس دون فريق، وحظوظها من اليُسر والعسر ومن الشدة واللين ليست مقصورة على المكفوفين وأصحاب الآفات دون غيرهم من الناس، ولو قد عرف الإنسان ما يلقى غيره من المصاعب وما يشقى به غيره من مشكلات الحياة، لهانت عليه الخطوب التي تعترضه ولعرف أن حظه خير من حظوظ كثير من الناس وأنه في عافية مما يُمتحن به غيره من الأشقياء والبائسين على ما أتيح لهم من الصحة الموفورة ومن تمام الآلة واعتدال المِزاج واستقامة الملَكات. والمهم هو أن يلقى الإنسان حياته باسما لها لا عابسا، وجادًّا فيها لا لاعبا وأن يحمل نصيبه من واجباتها، ويحب للناس مثلما يحب لنفسه ويؤثر الناسَ بما يؤثر به نفسه من الخير، ولا عليه بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف وأن يرضى الناسُ أو يسخطوا، فنحن لم نُخلق عبثا ولم نُترك سُدى ولم نُكلَّفْ إرضاء الناس عنا، وإنما خلقنا لنؤدي واجباتنا وليس لنا بُدٌّ من تأديتها، فإن لم نفعلْ فنحن وحدنا المَلومون وعلينا وحدنا تقع التبعات.) تلك هي المقدمة التي أملاها طه حسين في 15 ديسمبر 1954 على مَن كتبها ونشرها بطريقة (برايل) الخاصة بالمكفوفين منذ ما يناهز الأربعين سنة من نشرها بالحروف التي لا يقرؤها المبصرون، وقد رأيت أن تقديمها هنا متكاملة يلقي مزيدا من الضوء على حياة عميد الأدب وعلى دوافع إملاء كتاب الأيام الذي يجب أن يقرأه المكفوفون والمبصرون ففيه فوائد لا تحصى، وعِبر لا تعد.