(1) إن مسألة التصوف مسألة مركزية في الاسلام، بل ولعل الواقع المحلي والعالمي اليوم دفع هذه المسألة الى مقدمة ركح الأحداث، وجعلها في صدارة المطارحات الفكرية الكبرى. لذلك رأيت أن أعود للحديث حول هذه المسألة منطلقا كما فعلت في الأسبوع الماضي في نفس هذه العمود من ما أثاره عرض الجزيري المسمّى ب «الحضرة 2010» من جدل حول التصوّف. ولقد حسمنا في المقالة السابقة الأمر حين وضحنا أن هذه «الحضرة» لا تمتّ الى التصوف بصلة، وإن كانت تقدّم بعض ما اتفق على تسميته «بالانشاد الصوفي» وهو كما يظهر في فرجة الجزيري هزيلا ضحلا وأحيانا مخالفا في جوهره إذا اعتبرنا أن له جوهر لحقيقة التصوّف الاسلامي الذي هو توحيدي أو لا يكون. ويذكرني الجزيري في مسعاه هذا بما اقترفه المصري الراحل يوسف شاهين حين قدّم لنا الفيلسوف ابن رشد الحفيد في صورة راقص على «وحدة ونصف». (2) لنذكر إذن أن التصوّف باعتباره علما اسلاميا ولد في نهاية القرن التاسع ميلادي في زخم ولادة العلوم الاسلامية الاخرى علوم المقاصد مثل الفقه والقانون وعلم التفسير وكانت في ولادة هذا العلم أي التصوّف تكريسا لتوتر بدأ يشتد بين قطبي الظاهر والباطن. فالقرآن يتحدّث عن هذين القطبين، وا& عز وجلّ يعرّف ذاته بصفتي «الظاهر» و«الباطن» وفي الأسماء الحسنى التي جعل المتصوفون من توحيدها وتجاوز تباينها الظاهر غاية تجربتهم، ولم يلبث أن أصبح التصوّف يمثل لبّ الاسلام الحي وعمقه الداخلي كتجسيم للوحي المحمدي لا كما يراه معارضو التصوّف شكلا من أشكال الاخفاء والاخفائية. ويمكن أن نعتبر التصوّف الاسلامي وجها من وجوه الحكمة الخالدة التي تكون حسب جهابذة هذا العلم منحدرة من أصل «الدين القيّم» الذي يتحدث عنه القرآن والذي قدمت منه كل الأديان وآخرها الدين الاسلامي الحنيف الذي جاء ليذكر بوحدانية ا& ويؤكدها، هذه الوحدانية التي كان آدم أوّل المبشرين بها. (3) لكن التصوّف لم ينج من الريبة والاشتباه خاصة وأن النص القرآني لم يذكر لا التصوّف ولا المتصوفين، ويجيب ابن خلدون الذي اشتغل على التصوف دون أن يكون من أهل التصوّف فيذكر في كتابه «شفاء السائل» أنه في زمن النبي لم تكن الحاجة لاعطاء إسم لعلم يبحث في المعاني الباطنية للاسلام لأن المسلمين كانوا يعيشون هذا الدين الجديد بصفة تامة كاملة ظاهرا وباطنا، ولأن صحبة الرسول الأعظم الذي كان يمثل للصحابة «الانسان الكامل» منبعا روحيا وسراجا منيرا، لم تكن الحاجة كما يرى ابن خلدون لاصطلاح يثبت أو يسمّي هذا العلم، علم التصوف، حتى أن أحد أقطاب التصوف في القرن العاشر ميلادي كان يقول «إن التصوف كان حقيقة بلا اسم أما اليوم فهو اسم بلا حقيقة». (4) ويرى المفكر نصر حامد أبو زيد أن كل إصلاح للفكر الاسلامي لا يمكن أن يبنى على غير التأويل، أي على غير مراجعة على أساس روحي للمادة الاسلامية وهو المذهب الذي أصبح يتفق حوله كل مفكري الاسلام الجدد بما فيهم اليساريون وحتى العلمانيون، وطرح مسألة العودة الى الجوهر الروحي في الاسلام لا يمكن أن يتمّ خارج مقتضيات تجربة التفكير الصوفي. وهو ما يفرضه واقع الاسلام اليوم وذلك للخروج أولا من دائرة القانونية الضيقة التي حولت الاسلام الى قائمة سطحية من المحلّلات والمحرّمات، وللتصدّي ثانيا للأصولية والتطرّف الديني الذي يعتمد القراءة الحرفية للنص ليجعل من الاسلام مجرد أيديولوجية للتمكن من السلطة وأداة للاستثراء.. إنها «المادية الدينية» كما أصبح يسميها بعض المفكرين، والتي أصبحت تدفع الى التساؤل في عالم معولم حول ماهية الاسلام وأهداف المسلمين، مضفية بهذه التساؤلات على هؤلاء وعلى ذلك مسحة من التشكيك والرّيبة. (5) «إن الاسلام روحي أو لن يكون» كما يشير الى ذلك المفكر الفرنسي المستشرق إيرك يونس جوفروا (). ولا يمكن استعادة هذه الروحية كاملة دون العمل على إعطاء معنى جديد للنص القرآني أي أن نتجاوز الظاهر الى اللّبّ وأن نسلك في ذلك بعقلنا وقلبنا مسلك أهل التصوف الذين كانوا سبّاقين في رصد وفهم ضرورة تحقيق معادلة العقل والروح والحكمة والشريعة.. والظاهر والباطن والانطلاق من حكمة الخالق في تنويع مخلوقاته للوصول الى وحدانيته، والذين يسلمون بوحدة الأديان للوصول الى وحدة التوحيد. ولعلّني أعود لأذكّر الصديق فاضل الجزيري أن جوهر التصوف يكمن في الامتناع عن إظهاره، وأنه كما قال الشّبلي وهو أحد أقطاب التصوف البغدادي: «إن في تسمية المتصوفين ما يدل على أنهم لم يتخلّصوا من ذواتهم كلها، لأنهم لو كانوا شفافين لما سميوا متصوفين..». (*) Eric Younes Geffroy, «L'islam sera spirituel ou ne sera plus» - La couleur des idées - Seuil