حين خرج مئات الآلاف من اللبنانيين ذات ربيع من سنة 2005 وتحديدا يوم 14 مارس، أي بعد شهر واحد من اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري كان المطلب الرئيسي الذي خطه اللبنانيون بالبنط العريض على لافتاتهم يتلخص في كلمة واحدة: «الحقيقة». فالزلزال السياسي الذي سببه اغتيال الحريري خلّف صدمة عنيفة لدى اللبنانيين فجاءت ردود الفعل متفاوتة في الانفعال وفي التفاعل مع هذه الجريمة الغامضة والمدبّرة للبنان بهدف إدخاله في حالة من الفوضى والفتنة وبدأت حالة الانقسام تتضخّم منذ ذلك الوقت بخصوص مستقبل لبنان بعد هذا الزلزال وسبل التعامل مع هذا الواقع الأمني والسياسي الجديد. إعداد: محمد علي خليفة: وكانت المحكمة الدولية المكلفة بمحاكمة قتلة الحريري نقطة الخلاف الأبرز بين فريقي الموالاة والمعارضة في لبنان، ففريق 14 آذار كان يرى المحكمة ضرورة للبنان وأمنه فيما بدا موقف قوى 8 آذار التي تضمّ «حزب الله» و«حركة أمل» والتيّار الوطني الحرّ معارضا منذ البداية لتشكيل هذه المحكمة بدعوى انها تعمل على تدويل لبنان وتؤدي الى التدخل الخارجي في شؤون لبنان الداخلية. حراك سياسي وقضائي واليوم عادت قضية محكمة الحريري لتطفو على السطح بقوة ولتصبح شغل لبنان الشاغل مع اقتراب صدور القرار الظني الذي ألمحت فيه المحكمة الى توجيه اتهامات لعناصر في «حزب الله». ورغم ان الواقع السياسي اليوم هو غير الواقع الذي انتجه اغتيال الحريري وهو ايضا غير الواقع الذي نشأت فيه المحكمة فإن الحراك السياسي الذي يشهده لبنان يثير تساؤلات جدية حول ما إذا كانت المحكمة أداة لتحقيق العدالة وكشف الحقيقة التي يريدها اللبنانيون ويتلهف العالم لمعرفتها أم أنها مشروع فتنة للبنان وأداة لضرب المقاومة فيه خدمة للمشروع الاسرائيلي الأمريكي. المحقق الكندي دانيال بلمار الذي يتولى رئاسة لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري صرّح يوم بدأت المحكمة عملها (يوم 1 مارس 2009) بأن المحكمة الخاصة بلبنان لا تهدف الى الثأر وإنما الى العدالة التي يتوجب التوصل اليها بصورة واقعية ومحايدة، مضيفا: «نحن نسعى الى الوصول الى الحقيقة». وهذا الكلام المغرق في التنظير كان مرفقا ايضا بمواقف لبنانية مؤيدة له بقوة كان أبرزها موقف النائب (آنذاك) ورئيس الحكومة الحالي سعد الحريري الذي تهمه القضية من منطلقين ذاتي وموضوعي (بوصفه نجل الرئيس الراحل) وواحدا من أبرز الوجوه السياسية في لبنان ما بعد رفيق الحريري). سعد الحريري قال في ذلك اليوم نشعر بأن تضحيات اللبنانيين في سبيل وطنهم وقرارهم الحرّ لم تذهب سدى، فالأول من مارس (2009) هو ثمرة جهود لكل اللبنانيين الذين تضامنوا من أجل قيام المحكمة الدولية ورفضوا الخضوع لكل أشكال التهديد والترهيب. واعتبر الحريري ان «المحكمة الدولية» لا تقتصّ من المجرمين والقتلة فحسب وإنما تؤسس لحماية لبنان وقياداته ومفكّريه وشعبه ونظامه الديمقراطي من الجريمة المنظمة وأدواتها وأن المحكمة ليست طريقنا الى الثأر أو الانتقام وهي لن تكون بإقرار وتأكيد كل المسؤولين عن قيامها مجالا للابتزار السياسي او للمساومة على كرامة لبنان وحريته وسيادته». ولكن كل هذه الأهداف التي وضعت من أجلها المحكمة تبقى في حاجة الى تأكيدات عملية لم يتحقق منها شيء حتى الآن بل ان تشكيل المحكمة اصلا لم يوقف الجدل في لبنان بل زاد من حدّته، فبعد الاتهامات الصريحة التي وجهتها لجنة التحقيق الدولية التي ترأسها في مرحلة اولى القاضي الألماني ديتليف ميليس لدمشق بتورطها في الجريمة جاء الدور على «حزب الله» وهو ما رأى فيه سياسيون ومحللون لبنانيون وسوريون توجها نحو ضرب المقاومة في لبنان والالتفاف على ما حققته من إنجازات وحرف مسار الوحدة والتوافق اللذين تحققا في لبنان منذ تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والسعي الى بثّ البلبلة والفوضى في البلد من جديد. المصداقية في الميزان ولعل ما كشفته القناة العاشرة في التلفزيون الاسرائيلي قبل أيام من أن القرار الظني المرتقب صدوره عن المحكمة سيتهم تحديدا القيادي في «حزب الله» مصطفى بدر الدين الذي يعدّ رجلا قويا ومؤثرا في الحزب مثلا دليلا إضافيا بيد «حزب الله» والقوى على المحكمة على أن هذا الهيكل القضائي الدولي يفتقر الى المصداقية المطلوبة لكسب ثقة اللبنانيين والقيام بواجبه بالشكل الذي يفرضه القانون المؤسس له ووفقا للعُرف الدولي من ان أي جهاز قضائي ينبغي ان يتسم بالحياد والشفافية وأن تكون غايته السامية العدالة لا الثأر أو تصفية الحسابات. ورغم ان البعض رأى في الردّ العنيف ل «حزب الله» على ما تم تسريبه من فحوى القرار الظني بشأن اغتيال الحريري اتهاما للحزب بالتورط في هذه الجريمة فإن «حزب الله» بادر الى شن «حرب استباقية» على المحكمة الدولية وصار التشكيك في أهليتها ومصداقيتها حديث قادته بدءا بالأمين العام حسن نصر الله. فعلى امتداد الاسابيع الأخيرة تعددت الاطلالات الاعلامية لنصر الله والموضوع وإن تعددت جوانبه وأبعاده فهو يتمحور حول ملف المحكمة الدولية واتهاماتها وسلوكاتها. واللافت ان نصر الله لم يقدّم موقف حزبه من كل ما أثير حول هذه المسألة مرة واحدة، وبرر ذلك بالقول إن البلد لا يحتمل هذا الأمر وإنه حرصا على أمنه وسلامته فإنه سيقدّم تباعا حججه وبراهينه التي تبرّئه بل وتلقي بالكرة في الملعب الاسرائيلي من خلال توجيه اتهام مباشر لسلطات الاحتلال بتدبير اغتيال الحريري موثق بالأدلة وفق ما صرّح نصر الله في آخر ظهور له الثلاثاء الماضي. أمين عام «حزب الله» سيعود اليوم الى الظهور ليبعث برسائل جديدة وربما ليكشف حقائق مثيرة عن علاقة إسرائيل بالمحكمة الدولية. ولاشك ان هذا الحراك السياسي والقضائي سيزيد من سخونة الساحة اللبنانية، في انتظار الكلمة الفصل من المحكمة الدولية فإما الحقيقة والعدالة وإما العودة ربما الى الحرب الأهلية!