تعرضنا في العدد السابق إلى القصة الأولى من أصحاب الغار, واليوم نتناول القصة النبوية الثانية وهي الواردة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ فَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ). القصّة الثانية تناولت علاقة الأبناء بالآباء , حيث تقدّم لنا صورة رائعة وجميلة جدا لعلاقة الإبن البار بأبويه الكبيرين , إنها علاقة تذلل وانقياد وطاعة لهما نابعة من محبتهما والرغبة في خدمتهما والسهر على راحتهما في مثل ذلك السنّ من أرذل العمر حيث وهن الجسم وخارت القوى. لقد دأب هذا الولد الصالح على برّ والديه حيث كان يطعمهما من لبن الغنم كل ليلة قبل أن يطعم أهله وأولاده, لكن في ليلة من الليالي وجدهما نائمين دون طعام بسبب إبطائه عليهما, فعزم على عدم تركهما دون أكل وأن لا يوقظهما حتى لا ينغّص عليهما نومهما وقرّر أن ينتظرهما حتى الصباح.هذه القصّة درس عظيم للأبناء في كيفية برّ الوالدين والإحسان لهما كما أمر بذلك الله جلّ وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء 23/24). وبرّ الوالدين ليس لقمة وطعاما ولا كسوة وسكنا فقط بل هو إلى جانب ذلك طاعة واحترام لهما حتى لا يشعرا بأنهما فقدا قوتهما ولا نفوذهما في البيت فإذا كبرا وضعف العقل ووهنت الذاكرة وصدرت منهما تصرفات صبيانية قد تضايق الابن هنا يظهر الأدب الإلهي الذي أراد الله أن ينفّذه المسلم في حياته تجاه والديه فلا يقل لهما أفّ ولا يؤذيهما ولا يستثقل وجودهما ولا يملّ من خدمتهما ولا يضيق ذرعا من تصرفاتهما بل يحسن إليهما ويقول لهما قولا كريما . وعن عبد الله بن عمرو قال أقبل رجل إلى النبي فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال: (فهل لك من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) . ومع كثرة النصوص والآثار الدالة على عظم شأن الوالدين ورفع مكانتهما إلا أن بعض الناس قد أخلّوا بهذا الجانب إخلالاً عظيماً خاصة من الشباب فكم سمع الناس وقرؤوا وشاهدوا من مظاهر العقوق القولية والعملية ما يندى له الجبين ويتألّم له القلب, ويزداد الأمر شناعة عند الاعتداء على حياتهما . قال رسول الله ے: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالها: ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين). وفي المقابل فبر الوالدين مفتاح كل خير ومغلاق لكل شر فهو من أعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار ثم هو ديْن يدخر للإنسان في ذريته حين يرى ثمار بره بوالديه قد أينعت في أبنائه . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم وعفّوا عن النساء تعفّ نساؤكم).