ينطلقُ سؤالي أعلاه من ملاحظة بسيطة: تفشِّي الخطاب الحربيّ والممارسة الحربيّة في كلّ مجال، بدايةً من السياسة الدوليّة وصولاً إلى الساحات الثقافيّة والمنابر الإعلاميّة مرورًا ببعض سراديب المحاكمات الفقهيّة! حيثما قلبت نظري رأيتُ فتكًا وهتكًا وتنكيلاً...وحيثما وجّهتُ أذني سمعتُ نشازًا وصراخًا وزعيقًا... حتى المسلسلات التلفزيونيّة العربيّة أصبحت في أغلبها حلبات لتبادل العنف... حتى الخصومات الفنيّة غاب عنها الجدل ومقارعة الحجّة بالحجّة وطغى على مُعظمها الحسد المكشّر عن أنياب البذاءة والنميمة. فما الذي يحدث؟ هل هي حالة عارضة واستثناء مرتبط بمرحلة معيّنة، أم أنّنا أمام طبيعة الأمور؟ سؤال يستمدّ وجاهته من وجاهة طرحه في المجال السياسيّ...فالكلّ يسأل هذه الأيّام: هل الحرب وشيكة؟ يقصدون الحرب التي قد تشنّها وقد لا تشنّها الولايات المتّحدة أو إسرائيل على إيران. وهو سؤال يؤرّق المعنيّين بشؤون السياسة الدوليّة والمعنيّين بالشأن الإنسانيّ بشكل عامّ... فالحرب في أيّ مكان في العالم لا ينجو من دخانها ودمائها ودمارها أحد... والسؤال يجد ما يبرّره في الانسحاب الأمريكيّ نفسه، من العراق، وإن كان جزئيًّا... إذ يمكن أن يرى المحلّلون في هذا الانسحاب استعدادًا فعليًّا للحرب، بما أنّه «يهّرب» قسمًا كبيرًا من الجنود الأمريكيّين بعيدًا عن مرمى النيران الإيرانيّة. ولكن متى توقّفت الحرب كي تصبح وشيكة؟ وهل كفّت الولايات المتّحدة وغيرها عن الحرب يومًا؟ وهل شهدت الكرة الأرضيّة منذ عقود كي لا أقول منذ قرون، «وقتًا مستقطعًا» وضعت فيه الحرب أوزارها فعلاً؟ الانتخابات نفسها، في أمريكا وفي غيرها من الدول الكبرى، كانت دائمًا أكبر «قابلة» لتوليد الحروب... إذ كثيرًا ما احتاج رجال السياسة إلى الحرب لتعبئة الأنصار وتأليف القلوب وصرف الانتباه عن المشاكل الداخليّة...ولابدّ لهم من عدوّ يخترعونه إذا لزم الأمر، لتجييش العواطف وإنتاج المخاوف وتحويل خوف مواطنيهم إلى ورقة انتخابيّة رابحة. ولعلّ هذا ما قصد إليه إيميل شارتييه المعروف باسم ألان حين كتب «إنّ الشجاعة تغذّي الحروب لكنّ الخوف هو الذي يلدُها...». وكنتُ كتبت في هذه الزاوية، عند حصول أوباما على جائزة نوبل للسلام ما معناه أنّنا أمام مفارقة كبيرة شبيهة بطاحونة الشيء المعتاد... فقد رأينا أكثر من مرّة قائد حرب يُعامَل على أنّه رمز للسلام! كما رأينا أكثر من مرّة رمزًا للسلام، ما إن يتخلّص من حروب سلَفِه حتى يشرع في البحث عن حربه الخاصّة! إذن فالحرب لم تغب يومًا حتى نتحدّث عن حرب وشيكة! كما أنّها لم تقتصر على مجال السياسة الدوليّة كي نقول كما قال دالمبار: إنّ الحرب هي فنّ تدمير البشر، مثلما أنّ السياسة هي فنّ تضليلهم... أليس ضربًا من الحرب على إنسانيّة الإنسان، أن يُطالب بعضُهم بتنفيذ عقوبة الإصابة بالشلل، كقِصاص، على رجلٍ تسبّب في إصابة شخص آخر بالشلل؟ أليس ضربًا من الحرب على عقل الإنسان وحريّته وخياله، أن يُحاكم البعض مسلسلاً تلفزيونيًّا بتهمة تجسيده بشرًا يخطئ ويُصيب؟ أليس ضربًا من الحرب على كرامة الإنسان أن ينسحب الجدل والحوار لفائدة القمع بالبذاءة والرداءة؟ والمسألة في النهاية: هل الحربُ وَهْم كبير والسلامُ وَهْم أكبر... كما قال مارسيل أشار صاحب كتاب لا جدوى من الحبّ؟ هل الحربُ دليل على البشر الذي لم يخرج بعد من مرتبة الحيوان؟ أم أنّها مرض مُعدٍ علينا مواجهته؟