ارتبط اسم الجامعيّ والباحث حسين الواد في ذاكرة الكثيرين بأعماله النقديّة المتميّزة التي نذكر من بينها: «البنية القصصيّة في رسالة الغفران» (1972)، «في تاريخ الأدب: مفاهيم ومناهج» (1979)، «المتنبّي والتجربة الجماليّة عند العرب» (1987)، «دراسة في شعر بشّار» (1992)، «اللغة الشعر في ديوان أبي تمّام» (1999)، «جماليّة الأنا في شعر الأعشى الكبير» (2001)، إلخ.. إلاّ أنّ الملمّين بمختلف مراحل تاريخ ساحتنا الأدبيّة يعرفون صلة الرجل الوثيقة بالممارسة السرديّة، خاصّةً في الفضاءات التي أَثْرَتْهَا «حركة الطليعة»، وتحديدًا في صفحة «تجاوزات» التي كان يشرف على تحريرها بجريدة «الأيّام» صحبة الأستاذين محمد صالح بن عمر وحمادي التهامي الكار.. وليس من شكّ في أنّ المطّلعين على تجربة الرجل لم يفاجئهم ظهوره «روائيًّا» في عمَله الجديد «روائح المدينة» الصادر ضمن سلسلة عيون المعاصرة (دار الجنوب للنشر. 2010. 363ص)، بمقدّمة للأستاذ صلاح الدين الشريف. غابت عبارة «رواية» عن الغلاف.. ولا يهمّنا أن ننسب هذا الغياب إلى «السهو» أو إلى الناشر والمؤلّف.. فالذاكرة لا تغفل عمّا ذهب إليه غي دي موباسان حين كتب ساخرًا: «إنّ الناقد الذي مازال يجرؤ على القول هذه رواية وهذه ليست رواية، لَيَبْدُو لي متحلّيًا بفطنةٍ شديدة الشبه بعدم الكفاءة..». وما الحاجة إلى صفة «الرواية» ونحن أمام سبيكة روائيّة فاتنة مبنيّة على المخاتلة والإرجاء.. يريد الراوي أو يزعم أنّه يريد أن يتحدّث عن روائح فيحدّثنا عن روائح أخرى.. فإذا نحن أمام وعدٍ مُرْجَإٍ أبدًا.. وإذا نحن أمام مخاتلة تغوينا بالقراءة وتشدّنا إلى السرد شدًّا، بين مكر الراوي وهو يزكم أنوفنا بروائح مدينته، والمؤرّخ الحزين وهو يدير لسانه بكلامه الذي هو كلامنا، والمؤلّف وهو يتشظّى لنتعدّد ويغيب لنحضر؟ غابت عبارة «رواية» عن الغلاف.. ليتحوّل الحديث إلى قَصّ وليتحوّل القصّ إلى عمل روائيّ محبوكٍ من خلال لوحات ومشاهد وحكايات تتوازى لتتقاطع وتتقاطع لتتوازى بعيدًا عن شروط الحبكة الكلاسيكيّة.. ومكتوبٍ على الرغم من ترويضه الكثير من فنون المشافهة من خلال لغته المتينة الحديثة المرنة الدقيقة التي لانت لصاحبها حتى لكأنّه من أهل الاختصاص في فنون العطارة والعمارة والفلاحة وغيرها.. ومشوّقٍ على الرغم من ابتعاده عن بهارات التشويق المألوفة.. وشاهدٍ على تاريخنا الحضاريّ والسياسيّ على الرغم من أنّه تخييل.. وموثّقٍ لمسيرة من الأحلام وانكسارها والقيم وانهيارها والآمال ومآزقها على الرغم من أنّه لعب وفنّ.. وهو إلى ذلك كلّه بعيد عن الوجدانيات بعيد عن الإيديولوجيا.. يوزّع البطولة بالعدل بين اللغة والروائح والأحداث والأماكن والبشر، أسرى مصائرهم المتقلّبة منذ عهد البايات إلى زمن الناس هذا.. غابت عبارة «رواية» عن الغلاف.. والأرجح أنّه «تغييب» شديد الصلة بالتجريبيّة الذكيّة المتجذّرة في مشروع حسين الواد ككلّ.. والمتجلّية من خلال بحثه الدؤوب عن أسرار جماليّات الكتابة التي لا خصومة بين جذورها وأجنحتها.. كتابة تنهضُ بها ذاتٌ متجذّرة في زمنها منفتحة على مستقبلها، لا تحتقر نفسها ولا تنغلق عليها، ولا ترفض الآخر ولا تنبهر به، بل تنفتح على مستقبلها من خلال فهم ماضيها ونقده، مؤسِّسةً شرعيّة حضورها على ما تضيفه وتنفرد به. ولعلّ بعضَ ما تنفرد به هذه الرواية أنّها منحتنا شخصيّة روائيّة جديدة هي شخصيّة القاصّ ثلاثيّ الأبعاد الذي يقصُّ الروائح أي يتتبّعها وكأنّها أرواح في خيط.. جامعًا قصَّ الرائحة إلى قَصِّ الأثر فضلاً عن قَصِّ الخبر، دون أن يغفل عن أنّ انهيار العمران حسب التعبير الخلدونيّ قد يرتبط بضياع «الخيط» وقد يرتبط بتحويل «الخيط» إلى وثاق.. واضعًا أنفه أو يده على تلك المنطقة الخصبة حيث يلتبس المحو بالكتابة، فلا نعرف هل تُقَصُّ الروائح أي هل تُكتَبُ الأشياء خوفًا عليها من الضياع أو رغبة في الفكاك منها.. وكم هو مُغْرٍ هنا استحضارُ ما جاء في «اللسان» من أمر الحديث القائل «إنّ بَني إِسرائيل لما قَصُّوا هَلَكوا، وفي رواية أخرى لمّا هلكوا قَصُّوا، أَي اتّكَلوا على القول وتركوا العمل فكان ذلك سببَ هلاكهم، أَو العكس، لمّا هلكوا بترك العمل أَخْلَدُوا إِلى القَصَص..». لهذه الأسباب وغيرها كثير، نستطيع القول إنّنا أمام رواية متفرّدة، ممتعة، لا يقف عمقها دون جاذبيّتها، ولا تقف تجريبيّتها دون قراءتها.. يزدان بها صدر الرواية التونسيّة والعربيّة، ويستحقّ عليها مؤلّفها كلّ إعجاب وتقدير.